[align=center]أريدُ زوجة!!*
محمد آل زايد
«ألا تفهمني؟! لم أعد أطيق الاصطبار، نحِلتْ عظامي من كثرة الصوم، وأنت مازلت تردد: «من لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء»! فماذا يهمك مادمت نائماً عند أحضان أمي!!
أبي، ألا تفهمني؟، الفتوة تغلي في عروقي، لقد كبرتُ، ولو تزوجت لملأت البيت ضجيجاً من أولادي، وإن لم تصدق فاعطني امرأة!!
أبي، أسألك بالله حين تزوجتَ كم كان عمرك؟، ألم تكن في السادسة عشرة؟، أفلا أحزنك إذ علوت العشرين بسنين وأنا مازلت أصرخ بداخلي «أريد امرأة»؟!.. ألم تفهمني بعد؟!».
أتمزق وأنا أحدّث والدي في سري، وهو يقود السيارة غير عارف بالعاصفة التي تجتاحني، يقود سيارته ببروده المعتاد، وأنا مازلت أوبّخه بداخلي:
«لابد أن تكمل الجامعة أولاً.. هه!، تلك الحجة الواهية، لماذا وكيف أكمل الدراسة ولا يوجد من أسند لها همومي؟، كيف أكمل الجامعة وعيني تطيش يمنة ويسرة؟!، كيف أرتّب وضعي.. والسّكنُ الذي فطرني الله عليه محروم منه؟!، إنّي مشرد، مطرود، أرجوك يا أبتي ارحم عبرتي!».
يفتح النافذة ويعدل مرآته الجانبية ويتفحصها بنظره!
«أبتاه، إن كانت شماعتك الأموال فأسألك بالله، ماذا كان يملك ذلك الأعرابي الذي أراد أن يزوجه الرسولُ من إحدى النساء؟، إنه لا يملك حتى خاتماً من حديد!، لا يملك سوى إزاره الذي كاد أن يشقه نصفين ويعطيها أحدهما مهراً، لولا أنّ رسول الله زوجه بما يحفظ من كتاب الله. أبتي، إن شئتَ سأحفظ القرآن كاملاً! ولكن أرجوك امنحني زوجة قبل أن تسمع عني أخباراً موحشة؟!».
يدِقّ والدي مزمارَ السيارة بشدة إذ كاد أحدهم أن يصدمنا!، لم يشتمه وظل صامتاً!. يقسّم نظراته على النوافذ. لم يجد ما يسليه، وأنا قابعٌ على الكرسي كالأخرق! يبدو أنه ملّ من السكوت فراح يشعل سيجارته، ويلقي بصره للطريق..
«فلتنظر لي، إني أحترق، لقد جرّبتُ شرب الدخان ولكنه لم يطفئ نيراني بل ألهبها، صدقني يا أبتي، إني أتعمد أن لا أحلق لحيتي ولا شاربي إلا من شهر لشهر، لعلك تفهم أني كبرت، أصبحت رجلاً يقف الصقر على شاربي! ولكنك بحاجة لتفصيل نظارة ثانية!!..».
أخذ يمسح نظارته بمنديله!!، ربما أصابها شيء من الضباب، أو أصابتها عيني!. وهاهو ينظف الزجاجة الأمامية للسيارة برشحات من الماء، والمسّاحتان تحاولان عبثاً تنظيف الزجاجة، لعل الرؤية تكون سليمة!
أبتسِمُ حين أتذكر أمي المسكينة، عندما أحاول مداعبتها بأمر الزواج، وأستدرجها: ماذا أسمي ابنتي؟ بل من تريدين زوجة لي؟، ولكنها فطنة لا تُخدَع، فلا أجد سوى جوابها المعتاد: «لا تصبح قليل أدب»!
إن كان الأمر كذلك فلأكُن قليل أدب، فلأكُن قليل حياء، قبل أن أكون شيئاً آخر يسوؤكم سماعه. لا فائدة لقد أقنعكِ والدي..
«امنحني فرصة يا أبتي قبل فوات الأوان، اطلبْ منّي ما تشاء، أن أرفع معدّلي، أن أغير أصحابي، أن أشتغل زبّالاً!، أي شيء تريد، ولكن أرجوك امنحني صدر امرأة يتفتق حناناً..».
يعيد النظر لمرآته الجانبية، لم يغيّر فيها شيئاً، ثمّ يلتفتُ للمرآة المعلّقة في الزجاجة أمامه، يعدّلها، ويحملق ليرى من خلفه! بدل أن يراني!. ليته يقول شيئاً، ليته يبصرني وأنا شاحب، مُنحني الرأس، أكلَني الشرود..
«أقولها لك بجرأة: أريد امرأة!، أقولها بوقاحة: أريد زوجة!، فلتصفني شهوانياً، أنثوياً، جنسياً، أي لقب تشاء، ولكن لتعلم أنّ ربّك هو الذي غرس فينا ذلك، نريد زوجة لا لغريزة الجنس وحسب، بل هناك الكثير الكثير تحمله لنا ابنة حواء في قلبها».
يمسك منديلاً، يلفّه كما العُود، ثمّ يدخله في أذنه ينظّفها..
«أحسنت يا أبتي، أزل تلك الرواسب التي تحجب مسامعك عني، فقد تعبتُ معك، الحياء يقيدني فلا أستطيع مصارحتك، كم من شريط يدعو للزواج المبكّر وضعتُه في سيارتك، فأتفاجأ بأن أراه ملقى في غرفتي، قريباً من القمامة!! وأمنّي نفسي: لعله شريط آخر.. أو لعل الشريط مشوّشاً!».
«هاتشو»!!.. يعطس، فأحمدُ الله في سري!، ومازال هو صامتاً، ولا تصدر منه حتى نحنحة!
أحدق فيه، عيناه غارقتان في الطريق، كصنم لا يلتفت، وشفتاه عليهما مقامع من حديد!
فجأة..
أراه يلتفت صوبي، يفتّشني بنظراته، لعله أبصر ما بداخلي، دعوت الله أن يتحدث، وليقل أي شيء.. ليقل «واصل دراستك»، ليقل: «عليك بالصوم»!، ليتحدث فقد خنقني الصمت، وليته يفهم أي جرح يكتنفني. يوزّع نظراته بين الطريق وبيني، أخذ يشتمّ يميناً ويساراً، وبقربي يشمّ أكثر، وصوت شهيقه يشتدّ، لابد أنه سيقول شيئاً، شفتاه تتهيآن للكلام، تكسران المقامع التي طوقتهما، أخيراً هاهو يتحدث:
- ولدي، ألا تشم رائحة «حمْصة» محترقة؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القصة الحائزة على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة بجامعة الملك سعود، عام24-1425هـ، والمركز الثالث في الأسبوع الثقافي الخامس لجامعات ومؤسسات التعليم العالي بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1425هـ.
ونشِرت في عقد قران الأخ محمد حسن آل زايد بالأخت الكريمة آلاء نافع تُحيفاء، بتاريخ 16 مارس 2005م ، في مدينة العوامية
نوور
[/align].