المرض الصحراوي الكسروي ومضاعفاته (4-4)
منذ أمد بعيد تداخل في فكرنا السياسي والاجتماعي والديني مرضان:كسرى والصحراء، فتأثر بهذين الوباءين؛ فكرنا العربي عامة والديني خاصة، وسلوكنا الاجتماعي عامة والسياسي خاصة.
من أجل ذلك جاءت الدولة العربية الحديثة، على مظاهر حداثتها الشكلية؛ تجسد في مضمونها، النموذج السلفي العباسي؛ حيث يبدو (ولي الأمر/الحاكم المطلق) الحديث، تحت أسماء ونعوت خداعة، وهو في حقيقته قد تقمص صورة(ولي الأمر/المطلق) العباسي،فقبض براحته على أعنة السلطات الثلاث، وغاصت حداثته في أعماق التراث، فصار مهيمنا ملهما لاينطق إلا بالحكمة والصواب، وصرنا نجري خلفه في بلاهة ودروشة، ونسمي باسمه الطيب الأولاد والأحفاد.
وولي الأمر العباسي/المطلق؛ هو نتيجة تفاعل المرضين الصحراوي والكسروي، ففيه من المرض الصحراوي:الكرم الشخصي حتى الإسراف، والشجاعة المجردة من عقلانية الوسائل والأهداف، والعزوف عن طابع الحاضرة، ومافيها من قيم اقتصادية وزراعية وصناعية، وقيم عملية حرفية، والجهل الإداري والقانوني والسياسي، ، وتقديم فصاحة الأقوال على فصاحة الأفعال، والنظر إلى الحكومةعلى أنها عشيرة، لها من الحقوق ماليس للعشائر الأخرى، أي تقديم الروابط العائلية على الوطنية.
وهذه القيم أنتجت سياسة صحراوية، عليها مسحة حداثية، يمكن تسميتها الحداثة السياسية البدوية، كما أنتجت فكرا دينيا صحراويا، يمكن تسميته »الفقه الصحراوي«، الذي سماه الشيخ الغزالي:الفقه البدوي، ومظاهره أخطر من ما أشار إليه الغزالي: إنها في تبرير انتهاب ولي الأمر السلطات الثلاث، قياسا له على النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين المنتخبين، الذي كانوا قمة العدل والإنصاف والمشاورة، في طور تكوين الدولة.
وفي ولي الأمر أيضا نفحة كسروية.وللمرض الكسروي حكاية، ولكل حكاية بداية، البداية أموية، فالعباءة الأموية والعباسية، استدعى نسيجها كل ما انتج الأكاسرة، من خيوط استبداد واستفراد، وكل مالكسرى من دعاوى التفرد بالإلهام، وعدم حاجته إلا إلى شورى معْلِمة، هذا إن احتاج .
وورث الأمويون كل مالكسرى من قمع وتعذيب، وعنف جسدي ومعنوي، وحكم بالحديد والنار، وطور العباسيون فنون التنكيل بالخصوم، حتى وصلوا بها إلى الغاية، وورثهم الحكم التركي محافظا على هذا التراث.
ولم تستطع الدولة العربية ترك الانتماء إلى هذا التراث، ولو كان خصوصية الاستبداد، ولذلك ظل الوباء الكسروي والصحراوي يتزاوجان، وينتجان النموذج السياسي العربي، الذي تناسخت روحه عبر الأجيال، من الأجداد إلى الأحفاد.
منذ عهد قديم استطاع المرض الكسروي الصحراوي، أن يتداخلا في بصمة ثقافية واحدة. أفضل ما في خيام الصحراء: هي الفصاحة، صارت أَمَة في بلاط كسرى، موظفة تخدم شر مافي مدائن كسرى: الاستبداد، فكانت قصيدة المديح الشحاذة؛ أكثر وأروع ما في شعرنا القديم.
وهذا هو الرصيد الذي لابد لأي شاعر أو كاتب من استيعابه، وبقدر ما يلهم هذا الرصيد البلاغة، أصابنا بالمرض الصحراوي الكسروي،بالسلبية واللامبالاة والانقياد، فقدمنا حظوظ الذات على مصالح الأمة العظمى، فكان التيار الغالب في الثقافة العربية القديمة المعاصرة؛في إمعيته ومجاراته وتقليده وبلادته؛ من تجليات الذهن المقموع.
المرض الصحراوي أضمر العقل فلم يثمن الناس التقنية والصنائع،والمرض الكسروي وأد العدل، فخاف أهل الدين والفضل،الخوف من كسرى، كان خوفا ظاهرا محسوسا،أحس به العقل الظاهر، أما السلوك والأفكار؛ فهما حركة اشترك في إنتاجها العقلان: الظاهر والباطن،- أي شاعرين أو غير شاعرين-، كي لا يصطدموا بالسقف الكسروي والصحراوي القامع، الذي أقلم كل النفوس، وحجم كل الرؤوس.
فصاغوا العقيدة والتفسير والفقه والوعظ، صياغة محبطة خائفة، أهملت وهمشت أصولا من أصول الدين مدنية دنيوية عملية ،على هامش الروحية الأخروية والنظرية. وأغفلوا ما ينبني على قولهم:إن الدين إنما جاء لمصالح العباد في الدنيا والآخرة معا، من عناية بمصالح العباد الدنيوية، تلك التي لايمكن السعي إلى مصالح الآخرة من دونها.
فأمعنوا في التركيز على الغيبيات، فطاشت كفة القيم المدنية، كالحرية والعدالة والكرامة والمساواة، والتفكير العملي والتقني الفعال.
من أجل ذلك صاغوا الفقه السياسي والقانون الدستوري ؛ صياغة غريبة عن نصوص الشريعة الكلية القطعية، وأخلوا بأبجديات علم الاجتماع السياسي، التي يعرفها أي دارس مبتدئ في علم السياسة اليوم. ثم دسوا اجتهاداتهم في العقيدة، فأوحى ذلك للناس أن توصيفهم مسألة إجماع، علي محكم الشريعة المطهرة، غفر الله لنا ولهم.
ثم دفعهم الخوف من تماس الأجناس والثقافات، وكثرة فرق الابتداع والضلال، إلى بناء الفكر وفق مواصفات القلعة المحاصرة. فانحصرت فرائض الدين في العبادات، وهمشت فرائضه في إقامة حياة الأمة والملة، أفرادا ومجتمعات ودولة. وتكرس الانشغال بثانويات الدين العبادية، وتهميش مصالح الدنيا على متن مصالح الآخرة.
فانحصرت فرائض الدين في العبادات الروحية، وهمشت فرائضه المدنية، في إقامة حياة الأمة والملة، أفرادا ومجتمعات ودولة. وتكرس الانشغال بثانويات الدين الروحية، وتقديمها على الفرائض المدنية وتهميش مصالحه الدنيوية، على متن مصالح الآخرة.
وأسهم الجميع-من حيث لايشعرون- في قمع الحرية وروح التسامح، وعدت كل فرقة مذهبها قلعة محكمة السياج، فتكافر الناس في اجتهادات ظنية، وتمزق السلام الاجتماعي،فمهدوا-من حيث لايحتسبون-لظهور دولة الجغرافيا المذهبية. وهمشت العدالة الاجتماعية باسم درء الفتنة، فمهدوا من حيث لايدركون لسقوط حضارتنا أمام الغزو الهمجي التتري والصليبي. وانطرد الفكر التقني والعملي والعقلاني باسم الحفاظ على السنة،فمهدوا من حيث لايحتسبون لسقوط حضارتنا أمام حضارة الغرب.
وجاءت أجيال من بعدهم فاعتبرت توصيفهم هو الإسلام الذي لايزيغ عنه إلا هالك، وقررت أنه لايجوز النظر إلى الكتاب والسنة، إلا بعيون السلف العباسي الصالح،فوضعت سدا منيعا أمام كل من يحاول إعادة الصلاح المدني إلى حضن العقيدة.
وكان هذا عرَضا ثقافيا للمرضين الصحراوي الكسروي، ونمطا من أنماط تشكلات الشخصية المقهورة، وتكرس ذلك في خطاب عديد من الحركات الإسلامية، فلم تثر المكتبة العربية بالكتابة عن شطر العقيدة المدني، وما تقوم عليه سلامة أمة الملة، أفرادا ومجتمعات ودولة، ولا سيما المسألة الدستورية، ولم يؤصلوا نظرياتها تأصيلا كافيا، ولم يروجوا خطابا إسلاميا كافيا، فيثبتوا للناس مافي الإسلام من عدل ورحمة وكرامة، وغلبهم التيار السلفي القابع، الذي ضخم الجانب الروحي على حساب المدني.
http://www.mohawer.com/forum/printth...&threadid=1195
_________________________________________
للجميع فائق تحيّاتي...