[align=center]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد الشاكرين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آلة وصحبه أجمعين:
أما بعد فلقد رأينا العجب العجاب فبين فينه و أخرى يطل علينا -فقهاء الغفلة- وهم شرذمة من السوقة والعامة يهرفون بما لا يعرفون, ويهذون بما لا يدرون, وينعقون بما لا يفقهون, نراهم يفتون بملء أفواههم بلا علم ولا فقه ودون خوف ووجل من الله, الذي سيحاسبهم يوم الجزاء و سيسألهم عن كل صغيرة وكبيرة ضللوا بها المسلمين, ولبسوا فيها على العامة أمور الدين, و والله إنهم سيدمون يوم لا ينفع مالا ولا بنون وسيعضون أناملهم من الغيض على ما فرطوا في جنب الله { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } [النحل:25]
والمصيبة العظمى والداهية الكبرى أن بعض هؤلاء الجهلة الرعاع يحتجون بأن هذه آراءهم وقناعاتهم الشخصية , وكأنهم من أئمة المحققين وفحول المناظرين, فهم ولجهلهم المفرط لا يفرقون بين آراءهم المنتنة وقناعاتهم الخبيثة وبين الخوض في الدين والقول على رب العالمين بغير سلطانٍ مبين.
فزرعوا اليوم ما تحبون أن تحصدوه غدًا فما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فنحن والله محاسبون على كل كلمة ننطقها أو تكتبها
قال الشاعر:
أحـفـظ لـسـانـكَ أيـهـا الإنـسـانُ &&& لا يـلــدغـنـكَ إنـه ثـعـبـانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه &&& كانت تهاب لقاءه الشجعانُ
وخيرًا منه قول رب العالمين: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18]
قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف:33]
قال الإمام البغوي –رحمه الله-:
" هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه " رواه ابن ماجة وصححه الألباني
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم " رواه الترمذي
و قال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- : " اتقوا الرأي في دينكم ".
وكان ابن المسيب-رحمه الله- لا يكاد يفتي إلا قال: " اللهم سلمني وسلم مني ".
وقال ابن سيرين-رحمه الله-: " لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم ".
وقيل لأيوب السختياني-رحمه الله-: " مالك لا تنظر في الرأي؟
فقال أيوب: " قيل للحمار مالك لا تجتر؟ قال أكره مضغ الباطل ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
" فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمِر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب." [مجموع الفتاوى:13/371]
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
"وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه [mark=FFFF00]ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه [/mark]وقال تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [mark=FFFF00]فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام ولما لم يحله: هذا حلال وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه [/mark]". [أعلام الموقعين عن رب العالمين/1:38]
وقال الإمام النووي –رحمه الله- : [mark=FF0000][*][/mark]
عن ابن المُنكدر قال: " العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم ".
وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة، نذكر منها أحرفاً تبركاً.
وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول ".
وفي رواية: " ما منهم من يحدث بحديث، إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا ".
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: " مَنْ أفتى عن كلِّ ما يسأل فهو مجنون ".
وعن الشعبي والحسن وأبي حَصِين التابعيين قالوا: " إن أحدَكَم ليفتي في المسألة ولو وَرَدَتْ على عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر ".
وعن عطاء بن السائب التابعي: " أدركتُ أقواماً يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد ".
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان: " إذا أغفل العالم (لا أدري) أُصِيبت مقاتله ".
وعن سفيان بن عيينة وسحنون: " أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً ".
وعن الأثرم: سمعتُ أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: " لا أدري "، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
وعن الهيثم بن جميل قال: شهدتُّ مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري).
وسئل عن مسألة فقال: " لا أدري "، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: " ليس في العلم شيء خفيف ".
وقال أبو حنيفة: " لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر ".
وروى عن مالك -رحمه الله- قال: " ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك ".
وفي رواية: " ما أفتيت حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل يراني موضعا لذلك " ؟
قال النووي –رحمه الله- فإن قيل: هل لمقلِّدٍ أن يفتي بما هو مقلد فيه ؟؟
قلنا: " قطع أبو عبد الله الحَلِيمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الرّوياني وغيرهم بتحريمه، وقال القفال المروزي: يجوز ".
وقال أبو عمرو: [mark=FFFF00]قولُ من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى إمامه الذي قلَّده، [/mark]فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة، لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم، وسبيلهم أن يقولوا مثلاً: مذهب الشافعي كذا أو نحو هذا "
ويحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه، فمن التساهل: أن لا يتثبت، ويُسرِع بالفتوى قبل استيفاء حقِّها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة.
قال الصيمري [mark=FFFF00]إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي لعامي بما فيه تغليظٌ [/mark]وهو مما لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، [mark=FFFF00]جاز ذلك زجراً له، [/mark]كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة قاتل فقال: " لا توبة له " وسأله آخر فقال: " له توبة " ثم قال: " أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكيناً قد ضلَّ فلم أقنطه ".
قال: وله انتهار السائل وزجره، وتعريفه قبح ما أتاه، وأنه كان واجباً عليه البحث عن أهل للفتوى، وطلب من هو أهل لذلك. [mark=FF0000][*][/mark] منقول من كتاب آدَابُ الفَتْوَى والمُفْتِي والمُسْتَفْتِي للإمام النووي -رحمه الله- [631 – 676 هـ]
وعن قتادة[mark=6600FF][*][/mark], قال: تلا الحسن { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }
قال: فقال: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة, ووكل بك ملكان كريمان, أحدهما عن يمينك, والآخر عن شمالك; فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك; وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك, فاعمل بما شئت أقلل أو أكثر, حتى إذا مت طويت صحيفتك, فجعلت في عنقك معك في قبرك , حتى تخرج يوم القيامة , فعند ذلك يقول : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }[الإسراء:13,14][mark=6600FF][*][/mark][تفسير الطبري]
قال الإمام المنذري:
" وناسخ العلم النافع:له أجره, وأجر من قرأه, أو كتبه, أو عمل به, ما بقي خطه.
وناسخ ما فيه إثم: عليه وزره, ووزر من عمل به, ما بقي خطه.
جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .... آمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[/align]