الوقفة الخامسة : كرامة المسلم .
قال الله تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (262) سورة البقرة
تتحدث الآية الكريمة عن فضيلة الإنفاق في سبيل الله , وأن المنفق أجره على الله , وموعود بالأمن والطمأنينة عند الله بشرطين أساسيين :
الشرط الأول : ألا يُتْبِعَ نفقَتَه مَنّاً على الْمُنفَق عليه .
الشرط الثاني : ألا يُتْبِعَ نفقتَه أذىً يلحق المنفَقِ عليه .
قال تعالى : " ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى "
والْمَنُّ : أن يعتد على من أحسنَ إليه بإحسانه .
والأذى : أن يتطاولَ عليه بسببِ ما أنفقَ عليه .
والتنصيص على نفي هذين الخلقين الذميمين في حال الصدقة , وأن عدمهما شرط لقبولها فيه رفعة لكرامة المسلم أو الإنسان بشكل عام , فالشارع الحكيم يحث الناس على عدم المساس بكرامة الآخَر , ولو كان هذا الآخَرُ قد أخذ منك صدقة ما .
وأي جُرْحٍ لِلْكَرَامَةِ حين يتصدق عليك شخص ثم يمن بها عليك ويعيرك بها , أو يؤذيك بسببها , وقديما قالت العرب : إذا صنعتم صنيعةً فانسوها , وقال شاعرهم :
وإنَّ امرءاً أسدى إلَيَّ صنيعةً ,,, وذكّرنيها مرةً لَلَئيمُ
وقالت العربُ أيضاً : صِنْوانِ من منحَ سائلَهُ ومنّ , ومن منعَ نائله وضَنَّ .
أي أن من أعطى مع المَنّ , مثل الذي منع السائل وبخِل .
والصِّنْوان : مثنى صِنْو , وهو المِثل , أي أنهما متماثلان ليس بينهما فرق ,
والضنّ : البخل .
وفائدة الإتيان ب( ثم ) في قوله : ثم لا يُتبعون ما أنفقوا ... : التراخي في نفي المن والأذى مع طول الوقت , أي يدومون على تناسي الإحسان , وعلى ترك الاعتداد به والامتنان , ولا يمكن أن يعودوا إليهما في أي زمن وتحت أي ظرف . انظر : حاشية كشاف الزمخشري لأحمد بن المنير 1 / 311 .
وقد بين الله تعالى أن المن والأذى سبب لبطلان الصدقة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى } (264) سورة البقرة .
وقد جاءت السنة الكريمة بالوعيد الشديد على من أتبعَ نفقته مَنّاً يؤذي به كرامة أخيه المنفَقِ عليه .
قال صلى الله عليه وسلم : " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُم الله يَومَ القِيامَةِ ولا يَنْظُر إِليهِمْ ولا يُزَكِّيهِم ولَهُم عَذَابٌ أليم : المنّانُ بِما أَعْطَى , والمسْبِلُ إِزَارَه , والمنفِقُ سِلْعَتَه بِالْحَلِفِ الكَاذِب " رواه مسلم .
فعل رأيتم حفظاً لكرامة الإنسان وكرامة المسلم أعظم من هذه الكرامة حين يشدد الشارع الحكيم على عدم الإساءة لمن أنفقتَ عليه بالامتنان والأذية ؟؟؟
بقيت مسألة واحدة , وهي أن الله تعالى قال في نفس السياق : {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (263) سورة البقرة
فأتى هنا بذكر الأذى فقط , ولم يرد ذكرٌ للمَنّ , مع وروده في الآية التي قبلها وهي : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (262) سورة البقرة , والآية التي بعدها وهي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى } (264) سورة البقرة .
فلماذا جاء ذكر المن في الأولى والثالثة , ولم يرد في الثانية ؟؟
بحثتُ فلم أجد جواباً شافياً فاستعنتُ الله تعالى في إنعام النظر هنا , ولعل قارئاً يكون أوسع إدراكاً فيفيدنا بعلم أكثر .
قلتُ – والعلم عند الله - : أن الآية الأولى كانت الصدقة فيها عامة ( ما أنفقوا ) و ( ما ) موصولية تعم جميع الصدقات , فجاء الشرط هنا مستقصى بذكر المن والآذى , وفي الآية الثالثة كذلك جاء لفظ : الصدقات جمعاً , فناسب ذكر المحذور مفصلاً .
أما في الآية الثانية فجاء لفظ الصدقة مفرداً ( خير من صدقةٍ .. ) فأُتبعتْ باحترازٍ مفرد يناسب لفظها , وكان المفرد أحد لفظين ( المن والأذى ) , فاختير أعم اللفظين وهو الأذى , لأن الأذى يشمل المن وغيره من أنواع الأذى , فكلُّ مَنٍّ أذى وليس العكس .
أمرٌ ثانٍ : وهو أن الآية الأولى في سياق بيان الثواب للمنفق , وبيان الشرط الأساسي لقبول الصدقة وهو خلوها من المن والأذى فناسب أن يؤتى بالشرط مُفَصَّلاً , وفي الآية الثالثة جاءت الآية بسياق النهي والتحذير فانسب أيضاً أن يجيء النهي عما يبطل الصدقة مفصلا ( منا وأذى ) , أما في الآية الثانية فكانت مقارنة بين حالتين : قول معروف ومغفرة ,, وصدقة متبوعة بأذى , فلم يكن للتفصيل هنا مكان , فناسب الإتيان بلفظ عام يشمل الاثنين .
أمر آخر : وهو أن الآية الثانية فيها توازن في المعادلة – إن صح التعبير – فقد جاءت المقارنة بين شيئين مكونين من شيئين : قول معروف + مغفرة في مقابل : صدقة + أذى , فتمت المعادلة هنا , وجاءت الخيرية للأول .
ولو ذُكِرَ لفظ ( المنّ ) مع الثاني لكانت المعادلة : صدقة + مَنّ + أذى , وحينئذ يختل توازن المعادلة لأنها تصبح ثلاثة ف مقابل اثنين , ويختل النظم القرآني العظيم .
والله تعالى أعلم وأحكم , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .