حاجة العبد إلى الرب
عقد شيخ الإسلام - رحمه الله - فصلا لبيان حاجة العبد إلى الرب وغنى الرب عنه، ومع ذلك فالله يحب من عبده أن يسأله بخلاف المخلوق فإنك إذا سألته شيئا أبغضك وكرهك، كما أن في افتقار العبد إلى الله عزه وكرامته وفى افتقاره إلى المخلوق ذلته ومهانته؛ قال - رحمه الله - :
والعبد كلما كان أذلّ لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل : " احْتجْ إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره " ؛ فأعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه؛ فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم، ولو في شربة ماء، نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم .
وهذا من حكمة الله ورحمته ليكون الدين كله لله ولا يشرك به شيء، فالرب سبحانه أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه، والمخلوق أهون ما تكون عليهم أحوج ما تكون إليهم لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم؛ فهم لا يعلمون حوائجك ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون عليها ولا يريدون من جهة أنفسهم فلا علم ولا قدرة ولا إرادة . والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها ويريدها رحمة منه وفضلا وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريدا وراحما، بل رحمته من لوازم نفسه فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، والخلق كلهم محتاجون لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، والسعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك .
فهم ثلاثة أصناف : ظالم وعادل ومحسن . فالظالم الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه أو ينفع نفسه بضررك . والعادل المكافئ لك، كالبائع، لا لك ولا عليك، والمحسن الذي يحسن لا لعوض يناله منك، فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته وهو انتفاعه بالإحسان وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر أو طلب مدح الخلق وتعظيمهم أو التقرب إليك، إلى غير ذلك، وبكل حال ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع، وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك وانتفاعهم بك : إما بطريق المعاوضة وإما بطريق الإحسان . فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك فهم إنما يكرمونك لما يحصل لهم من الكرامة منك من لو قد وليت ولوا عنك وتركوك، فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم وأغراضهم .
فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم تجد أحدهم سيدا مطاعا وهو في الحقيقة عبد مطيع . ومتى كنت محتاجا إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك . والرب تعالى يمتنع أن يكون مكافيا له أو متفضلا عليه . ولهذاكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفعت مائدته يقول : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي " ولا مكفور " ولا مُودَّع ولا مستغنى عنه ربنا) . رواه البخاري من حديث أبي أمامة. بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك، بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله . وسعادة العبد من كمال افتقاره إلى الله واحتياجه إليه وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أي : بموجب علمه ذلك؛ فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم، مثل أن يذهب ماله ولا يعلم .
والخلق كلهم فقراء إلى الله لكن أهل الكفر والنفاق في جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره وهؤلاء هم عباد الله .
ثم بيّن - رحمه الله - ما يطلق العبد فقال ولفظ العبد في القرآن يتناول من عبد الله؛ فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال تعالى : إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وقوله : عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِوَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ ، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، ونحو هذا كثير .
وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها كقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ، وفي الحديث الذي رواه مسلم في الدجال : فيوحي الله إلى المسيح : أن لي عبادا لا يدان لأحد بقتالهم وهذا كقوله : بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا.
فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله لكنهم معبَّدون مذللون مقهورون يجري عليهم قدره، وقد يكون كونهم عبيدا هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له، وإن كانوا كفارا؛ كقوله : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ، وقوله : إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا؛ أي : ذليلا خاضعا ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان في الدنيا .
وقال - رحمه الله - عن إسلام المخلوقات وقنوتها له المذكورين في قوله تعالى : وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وقوله : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وقال : بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ، قال
فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال : طوعا وكرها؛ فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعا وكرها، فأما ما لا فعل له فيه لا يقال له : ساجد أو قانت بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم .
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعا، وكذلك لما قدره من المصائب؛ فإنه يفعل عندها ما أمر به من الصبر وغيره طوعا فهو مسلم لله طوعا، خاضع له طوعا، والسجود مقصوده الخضوع، وسجود كل شيء بحسبه سجودا يناسبها ويتضمن الخضوع للرب .