( الذكريات القديمة )
ترامت اليه الأصوات المبتهجة من الشقة المضيئة وهو يصعد الدرج أليها .. رأى بابها مفتوحا وفوق مدخله هلال من الأنوار الملونة , وأمامه يقف بعض المدعوين يتسامرون فحياهم ودخل مستحييا , رأى في المواجهة مقعدين كبيرين يتصدران بهو الشقة الواسع ومن حولهما باقات الورود وباقي المدعوين جالسين على هيئة مستطيل يلاصق جدران البهو . جلس في أقرب مقعد خال رءاه . وأخرج نظارته الطبية ليستعين بها في التحقق من الوجوه , وركز عينيه عي المقعدين الكبيرين , وتطلع الى وجه العروس الشابة بحنين غريب .. وخيل أليه أن يرى نفس الوجه القديم ..
بعد دقائق من التأمل الشغوف في وجهها نقل عينيه الى المقعد المجاور ..
فرأى وجه الشاب يتفجر بالسعادة , وعينيه لا تفارقان وجه خطيبته وهو يهمس أليها باسما ,, ويداهما متشابكتان ,, نفس المشهد منذ خمس وعشرين سنه .. والعمر شباب والأحلام ملونه بلون الورود .. وهو .. هو في نفس هذا المقعد .. وهي .. هي .. في المقعد المجاور ومن حولهما المدعوون على نفس مقاعد الصالون الأثري .. يتغير الأنسان أحيانا ويبقى الجماد على حاله مذكرا بعهد لم يحفظ .. ووعود لم يوف به .. فأيهما أحق بالأحترام ..؟
قال لها وهو في نفس هذا المقعد , سعادتي فوق الأحتمال .. فأجابته مبتسمه : نفس أحساسي واكثر ! ترى بماذا يتهامس هذان الشابان الان ؟ وهل تتغير لغة الحب من جيل الى جيل ؟ أن الفتاة نسخة من أمها الجميلة .. فهل تكرر نفس شخصيتها ..
كانت جميلة ووادعة وتشيع في النفس أحساسا هادئا بالسكينة والجمال .. تحابا وكان هو في عامه الأخير بالجامعة وكانت شقيقته المتزوجة هي الوسيطه أليها .. وتقدم لأبيها بعد التخرج فأستقبله في نفس هذا الصالون مرحبا لكن مشاعره تضاربت أمام أمها القوية المتسلطة .. ومن اللحظة الأولى اخضعته لأستجواب دقيق عن دخله وأمكاناته المادية وأسرته , ولم تبد مرحبة به . شكا الى حبيبته فنصحته بأن يبدى معها أقصى ما يستطيع من مهارة لأكتسابها ألى صفه , أذ بغير مساندتها لا يتم الزواج .. فتحامل على نفسه وحاول أرضائها بكل الطرق .. فرضت عليه أن يقدم شبكة باهضة .. ومهرا .. فوق أمكاناته المالية , وأن يستأجر شقة في نفس الحي حتى لا تشق عليها زيارة أبنتها بعد الزواج , فوعدها بأن يفعل المستحيل ليلبي طلباتها , باع قطعة الأرض الوحيدة التي ورثها من أبيه .. وباعت أمها ذهبها القديم , وأستدان من أقاربه , وقدم الشبكة وأعد المهر في أنتظار القران .. ووقف عاجزا أمام الشقة , وكلما عرض عليها شقه ملائمة . أبدت عليه أعتراضها لأسباب واهية , فأذا شكا لفتاته أذابت همومه بنظرة ساحرة , أو لمسة يد حانية , فيتوثب للبحث من جديد .. وفي نزههاتمهما المختلسه يحلمان باليوم الذي ينفردان فيه بنفسيهما في عشهما الصغير بعيدا عن رقابة الأم القاسية .. يداعبها قائلا : سوف أنتقم من رعبي من أمك فيك .. فتسأله بثقة : وهل أهون عليك .. فيسلم عليها بأنها أغلى ما في الوجود , ويتحدثان عن المستقبل , فتزقزق أمامها بحلمها الجميل , سوف ننجب بنتا أسميها ( نهى ) وسوف أزوجها ممن يختاره قلبها , ولو لم يكن يملك شيئا .. كانت رقيقة وحالمة وتحب أغاني ( عبدالحليم حافظ ) .. وتدمع عيناها حين تسمعه يغني ( خسارة .. خسارة فراقك ) وأكثر من مره أهدته أغنيته المفضلة في برنامج ما يطلبه المستمعون .. فيسمع بقلب طروب أسمه وأسمها يترددان عبر الأثير :
ومن ( جنان ) الى خطيبها ( فارس ) أغنية : أنا لك على طول خليك ليا , فيقسم لها أن يكون لها الى أخر العمر , ثم أكفهرت السماء فجأة بدون مقدمات , عندما وقع في مشكلة في العمل , وعوقب وتم نقله الى جنوب البلاد , وبعدما كانت وظيفته مرموقه , أصبحت وظيفته الان وظيفه هامشية ..
تملكه القلق والتشاؤم من حظه السئ .. أمها كانت ترفض الشقة القريبة من بيتها بدعوى أنها بعيدة .. فهل ستقبل أن ترحل أبنتها معه في المنفى البعيد !! وجاه الجواب بأسرع مما توقع , فعاد الى بيته الذي خيم عليه الحزن فوجد الشبكة والخاتم عند أمه .. أسرع الى التيلفون فجاءه الرد من أمها كالصفعه .. ذهب الى بيت حبيبته فتصدت له الأم ولسعته بكلمات مؤلمة أنها لا تريد لأبنتها الوحيدة أن ترتبط بشاب مغضوب عليه , ولا مستقبل له ورفضت الأم أن تسمح له بمقابلتها .. ترصد فتاته عند الخروج من بيتها .. فراها كسيرة منهزمة , ولم تجبه سوى بالدموع , زار أباها في مكتبه الحكومي فسمع منه كلمات مواساة .. ولم يجد أي قدرة على تحدي أرادة الأم .. عاد يترصد الفتاة وطالبها بأن تتوجه معه الى المأذون ليضعا أمها أمام الأمر الواقع .. فأجابته باكيه .. انها أضعف من أن تفعل ذلك مع أن قلبها يريده ويتمناه .. سلم بالهزيمة وأعترف لنفسه بأن أمها تتحين الفرص للأنقضاض عليه , ثم جائت الفرصة المواتية فصرعته بالضربة القاضية .. أنسحب من المعركة متألما بالجراح .. وسافر الى المدينة البعيدة .. ومن هناك راح يتلمس الأخبار من شقيقته , فعرف أن فتاته خطبت بعد عشرة شهور الى شاب يستعد الى للسفر الى الخارج للحصول على الدكتوراه , فقال لنفسه وهو غرقا في الكابه .. ( كل شئ ينسى ولو بعد حين ) .. حاول أن يتغلب على الوحدة والأكتئاب , فأنجرف الى لعب الورق مع مجموعة من زملائه يعانون مثله من السأم وأحساس الغربه .. سيطرت عليه داء القمار .. فقال لنفسه أنه يعالج جرحه المؤلم بالكي بالنار .. رحلت فتاته مع زوجها الى الخارج وأنقطعت عنه أخبارها , وبعد سنوات ,, وبعد فترة رحلة أمه عنه الحياة . وخلا بنفسه وحيدا .. نسي القلب فتاته بعد عامين أو ثلاثة من زواجها , لكنه لم يجد في نفسه دافعا ملحا للزواج رغم ألحاح شقيقته .. عرف غيرها وأحب أكثر من مرة .. لكنه لم يعرف أبدا مثل مذاق الحب القديم ..
أقتنع بحاجته للزواج بعدما أقترب من سن الأربعين أخبر شقيقته بأنه يرغب الزواج .. فعرضت عليه فتيات كثيرات فسألها عن شقيقة زوجها الأرملة ذاب الأبنة الوحيدة .. أشادت بأخلاقها وطيبتها , لكنه سألته : ولماذا الزواج من مثلها والفتيات في متناول يديك ؟ فأجابها متأسيا : لم أعد في سن الشباب .. ولم يعد للقلب مطمع ألا هدوء البال ..
تزوجها بغير أحتفال وتذكر يوم عقد قرانه . هذه الصالة نفسها ومجلسه فيها يوم خطبة فتاته الأولى .. وسأل نفسه : أهو صحيح ما يقوله البعض من أن في حياة رجل أمرأتين .. واحدة ندم على أنه لم يتزوجها , وأخرى ندم على أنه تزوجها ..
لم يحر جوابا لكنه لم يقصر في الحرص على نجاح زواجه وأستمراره .. وقابلت زوجته ذلك بأصرار شديد على التمسك به كأمل أخير لها في الحياة .. فأستقرت حياته بها وأن خلا القلب من عاطفة الأيام الجميلة , حاول أن يقنعها بعدم الأنجاب أكتفاء بأبنتها , لكنها أصرت على أن تجنب منه طفلا تربط حياتها به ألى الأبد ,, أستجاب راضخا , ورزق بطفل وسماه ( محمد ) وهو في الثانية والأربعين من عمره ..
في المناسبات الهامة في حياة الأنسان تتجدد الأشجان .. فاستخبر حين أنجب السنين فأنبأته أنه لو لم تعترض المحنة حياته لكان مولوده الأول الان في سن السادسة عشرة من عمره ..
تقدم في عمله فرقي مديرا بعد ست سنوات من ولادة ابنه ( محمد ) .. فأحتفل بعيد ميلاده وبالترقية في يوم واحد .. ثم نقل الى الهيئة التي يعمل بها مديرا جديد من الجامعة جمعت بينهما عضوية اللجنة العامة فتقاربا .. وتبادلا المجاملات . لكن شيئا ما كان يعوقه عن الأستجابة لتودده أليه ورغبته في تحويل زملاتهما الى صداقة .. في أوقات الراحة كان يزوره أحيانا في مكتبه .. ويحدثه عن أبنته الشابة بحب وأعجاب كبيرين , وعندما احتفل هو بخطبة ابنة زوجته لم يدع احدا من زملائه في العمل , لكن الصديق الجديد عرف بالخبر , وبعث أليه بباقة ورد , وعاتبه بروح رياضية على اغفال دعوته , بعد شهور من ذلك اليوم دعاه المدير الجديد الى حفلة خطبة ابنته الكبرى في حفل عائلي محدود , ونبهه ألى أن ظروفا تتعلق بوفاة احد أقاربه الحميمين قد أضطرته الى أقامة الحفل في مسكن أسرة زوجته بعيدا عن بيته وأعطاه العنوان .. وأمسك القلم ودونه ثم خيل أليه انه يعرفه .. فراح يستقصي بعض التفاصيل .. فأكدت له انه نفس العنوان القديم ( انه نفس منزل زوج حبيبته القديمه التي رحلت عنه ) وأن هذا الرجل الذي دعاه هو زوج حبيبته السابقة . لقد دعاه لحفل خطبة أبنته , التي لم ينجبها من خطيبته التي لم يتزوجها ! وأسترجع معلوماته فرجع أنها الان في الثانية والعشرين من عمرها , فاسترد نفسه سريعا من ذكرياته وهنأها بالكلمات التقليدية , ثم راح يتفصحه بأهتمام خفي كأنما يراه لأول مره , وحاول بأن يسأله ( عنها ) وعن شكلها الان , وماذا صنعت بها الحياة , لكن مسك لسانه في اللحظة الأخيرة , وعده بالحضور وأنصرف بعد نهاية العمل ألى بيته ومشاعره متضاربة تتناوبه لم يعد يحبها منذ سنوات طويلة .. لكنها ذكرى عزيزة في زوايا القلب .. مر في طريقه لبيته بمحل الزهور فأعطاه العنوان وأوصى بباقة ورود فخمة .. عاد الى البيت فتناول طعام الغداء مع زوجته .. ووجد نفسه يتأملها خلسة ويرقب تصرفاتها التي تتسم دائما بالحكمه مع أبنيها , وقال لنفسه كانما يخاطبها : فيك كل ما أرغب من عشرة هادئة , وشخصية متزنة رصينة , وعطف كعطف الأمهات . لكن الحب شئ أخر بكل أسف .. وهو لهيب دائما متأجج بالسعادة أو العذاب وحتى عذابه فأنه يجعل للحياة مذاقا مختلفا عن طعم الركود .. لهذا فهو عدو الأعتدال ..
غادر المائدة الى غرفة النوم , وحاول أن ينام كعادته كل يوم بلا فائدة .. فكر في أن لا يذهب مكتفيا بأرسال الورود .. لكنه لم يستطع مقاومة الرغبة في رؤيتها ولو لمرة واحدة بعد كل هذه السنين .. قال لنفسه فالتكن زيارة الى الماضي تنتهي بنهاية حفل الخطبة وتنتهي معها محاولات زميلة الجديد . لتحويل زمالتهما ألى صداقة حميمة .. تذكر فجأة الأغنية القديمة التي كانت تهديها له في الراديو . وتنبه ألى أنه لم يسمعها منذ سنوات .. قرر أن يبحث عن شريطها في درج شرائط الكاسيت وسط أكواب الأغاني الساخبة ..
نهض من فراشه بعد ساعتين بلا نوم فتناول الشاي وأرتدى ملابسه وبحث عن الشريط القديم ثم دسه في جيبه وأنصرف , ركب سيارته متوجها ألى عنوان خطيبته السابقة . فأدار الشريط وأستسلم ألى لأفكاره , ترى هل سيرى امها المتسلطة القاسية .. ووالدها المستسلم الضعيف .. وكيف يبدو شكل فتاة القلب القديمة الأن , وهل ستعرفه من الوهلة الأولى ( يقولون أن الفتاة لا تنسى أول من خفق قلبها له بالحب ,, ولو أستسلم الحب لعوامل الزمن ) .. فهل هي من هذا النوع ..!
في القاعة جلس يتصفح الوجوه , فرأى زميله مشغولا بتصوير أبنته وخطيبه . وتعرف على وجه شاب راى فيه ملامح مشتركه , فأحس بأنه شقيق فتاته الذي كان في سن المراهقة حين أرتبط بها .. لكن لم يجد اثرا في الأم المتسلطة ولا الأب الضعيف .. فعرف أن الزمن لعب معهما لعبته المحتومة .. ثم اخيرا راها تخرج من الممر الجانبي الذي يؤدي الى غرفة الطعام مع سيدة اخرى , فتجمد نظره عليها . وقلبه يخفق في الأنفعال ! تغيرت كما يتغير كل شئ في الحياة .. لكن وجهها الملائكي الجميل صمد الى للزمن الى حد كبير , وأمتلأ جسمها قليلا وأزداد فتنة ..
وفجأة وهو منصرف أحس بأن يدا توضع في كتفه وألتفت ووجد بأنه زميله يرحب به متسائلا في مرح .. متى جئت ؟ فتبادل الحديث فيما بينهم , ثم جذبه من يده ليقدمه للعروسين , وصاح وهما في الطريق أليهما ينادي زوجته ليعرفها بها , فجائت باسمة ومدت يدها , وصافحها مهنئا وألتقت العيون فلاحت علامات التذكر في عينيها .. أنكمشت ابتسامتها للحظه .. ثم عادت للأتساع من جديد وسألته : كيف حالك ؟ تظاهر بالمفاجأة قائلا : يالها من مفاجاة سعيدة .. كيف حالك ؟
فتسائل زوجها بلهجة مرحه .. هل تعرفان بعضكما ..؟
فرد عليه متظاهرة بالتعجب وقال يالها من دنيا صغيرة ,, وقد كنا منذ ست وعشرين سنة جيرانا لأسرة ( جنان ) ..! فتبادلوا التعليق على هذه المصادفة السعيدة .. وتبادل معا نظرة طويلة معبرة .. ثم انهت هي الموقف بدعوة الجميع لأفتتاح البوفية .. وتحرك المدعوون بالأتجاه الى غرفة الطعام .. فأنتهز فرصة أنشغالها وزوجها بهم . وتسلل من الشقة في هدوء .. وعاد الى بيته . عائدا من زيارته للماضي وصدره يجيش بأحساس شفيف من الشجن الهادئ !
وبهذا بدأ وأنتهي شريط حياتهما .. وتنتهي الرواية ..!