الوقفة الثلاثون ( الأخيرة ): اللفظ والمعنى في القرآن .
عني العلماء العرب بالعلاقة بين اللفظ والمعنى في مؤلفاتهم القديمة والحديثة , وكان رائد هذا الباب الإمام أبو الفتح ابن جني في كتابه ( الخصائص ) من خلال عدة أبواب : الاشتقاق الأكبر , تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني , إمساس الألفاظ أشباه المعاني .. , ثم جاء بعده ابن فارس الذي وسع دائرة هذا الموضوع ليجعل اللغة مبنية على الاشتقاق والربط بين المعاني من خلال معجمه ( مقاييس اللغة ) , وقد أشار الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه ( دلالة الألفاظ ) إلى جهود العرب في ذلك , وما حاولوا استنباطه من لغتهم الخالدة , وقارن ذلك باللغات الأخرى , فليُرَاجِعْهُ مستزيدٌ للفائدة .
وفي كتاب الله الكريم من هذا الباب عجب عُجاب , حيث العلاقة الوطيدة بين اللفظ والمعنى , وذلك حين يأتي اللفظ مناسباً لسياق المعنى والحدث , فتجد اللفظ المفخم مثلاً في موضوع التفخيم , وتجد اللفظ السهل في موضع السهولة , وهكذا .
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً لا أستطيع حصرها في هذا الموجز , ولكن حسبي أن أشير إلى شيء مما وقفتُ عليه :
1. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } (38) سورة التوبة , أتمنى من القارئ الكريم أن يردد كلمة ( اثاقلتم ) بلسانه ليرى كيف هي ثقيلة النطق لتحاكي الحدث , وهو ثقل الحركة عن الجهاد , والرمي بثقل النفس إلى الأرض .
2. قال تعالى : {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (41) سورة هود , لا شك أن الإمالة معروفة لغة , ولها ضوابط وأماكن , ولكن حين تجد أن كلمة ( مجراها ) ممالةً وكلمة ( مرساها ) غير ممالة فإن الخيال يذهب بك بعيداً إلى تمايل السفينة حال جريانها في البحر , وثباتها في البر , فجاءت إمالة الصوت مع حالة الميلان , وجاء ثباته مع حالة الثبات .
3. قال تعالى : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} (94) سورة الشعراء , تأمل أخي القارئ لفظ ( كُبْكِبوا ) كيف يحكي بأصواته المتكررة ( الكاف والباء ) صوت أهل النار وهم يُكَبُّون فيها , لأن تكرار الصوتين يدل على عدم انتظام الحدث نحو ( زلزل , وسوس , جلجل , صرصر .. ) والفعل : كَبْكَبَ أصله من ( كَبَّ ) , وهو أن يُكب الرجل على وجهه منكساً , فلما تكرر الصوتان أعطى زيادة في الحدث , وهو صوت انكبابهم في النار , وعدم انتظامهم في ذلك , وكأن بعضهم فوق بعض .
4. قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ , وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } (37) سورة فاطر
تتحدث الآيتان الكريمتان عن أهل النار – عياذاً بالله منهم – وكيف أن لهم جلبةً وصُراخاً وعويلاً , وجاء التعبير عن هذا الصراخ بقوله : " يَصْطَرِخُونَ " وأصله ( يصرخون ) , ولكن لإرادة تفخيم الحدث جاء الافتعال ( يصترخون ) ثم قلبت تاء الافتعال طاء لمناسبة الصاد قبلها كما قالوا : اصطبر , فصارت ( يصطرخون ) , وحين تتجلجل هذه الأصوات المفخمة في حلقك ( الصاد , والطاء والراء والخاء ) تدرك مدى ملائمة الصوت للحدث وهو عويل أهل النار وصراخهم .
5. قال تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر , لو تأملتً معي أخي الكريم قوله ( تقشَعِرُّ ) وتوارد الأصوات بهذه الطريقة لأدركت كيف ناسَبَ اللفظ المعنى , وكيف يقشعر لسانك وأنت تقرؤها محاكياً قشعريرة الجلد , ومثلها في هذا المعنى مع اختلاف السياق : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (45) سورة الزمر , فكلمة اشمأزّت بهذه الأصوات تحكي نفور القلب من الحق , والفرق بين ( تقشعر ) و( اشمأزت ) أن القُشَعْرِيرَة هي الرِّعدة تأخذ الجسد , والعين مع الراء المضعفة يسببان اهتزازاً في اللسان يحاكي ما يصيب الجلد . وهي أمرٌ محمودٌ من أهل الإيمان , وأما الاشمئزاز فهو النفور والإعراض وتمثله الهمزة والزاي خير تمثيل , لأن الهمزة تدل على الانفجار والقوة كما قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (83) سورة مريم , ويجمع بين ( تقشعر ) و( واشمأزت ) صوت الشين الدال على الانتشار والسعة , والحدثان كذلك , فالقشعريرة تصيب الجسد كله , والاشمئزاز يستغرق القلب والجوارح .
6. قال تعالى " {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} (13) سورة الطور , تتحدث الآية الكريمة عن سوق أهل النار إليها , وأنهم ( يدعُّون ) أي يساقون بالقوة , ولكن انظر كيف عبر الصوت بقوته ( العين المضعفة ) عن الحدث خير تمثيل في الفعل ( يدعون ) وفي المصدر ( دعّاً ) .
7. قال تعالى : {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (7) سورة الإنفطار , تأمل معي كلمة (فَعَدَلَكَ ) حيث جاءت متحركة بأربع حركاتٍ متتالية , وهي حركات متحدة ( بالفتح ) جميعاً , وهي تحكي اعتدال خلق الإنسان واستوائه , ولذلك تجد اللسان يقرأ الكلمة باعتدال في الصوت لا ينحرف ولا يميل , فسبحان الله العظيم .
8. قال تعالى : {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} (34) سورة النازعات , {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} (33) سورة عبس , تأملت الآيتين طويلاً , وتساءلت عن سر وصف الطامة بأنها ( كبرى ) في حين أن الصاخة لم توصف بذلك , فرأيت – والله أعلم – أن الصاخة دلت على الحدث بشكل أقوى , لما تمتلكه من أصوات مفخمة ( الصاد والمد والخاء المشددة ) , أما الطامة فهي أقل تفخيماً , لأنه لا يوجد فيها إلا الطاء والمد , والطاء أضعف تفخيما من الصاد , فناسب حينئذٍ وصفها بالكبرى , على أنه لا شك يوجد سرٌّ بالمعنى حول هذا الأمر غير ما ذكرتُ , ولكني لاحظت أمراً صوتياً أعتقد أنه حري بالعناية والتأمل .
9. قال تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طـه , تأمل أخي القارئ كلمة ( ضَنْكا ) وكيف يضيق بها الصوت واللسان ويعسر معها النطق , لتحاكي حال المعيشة الصعبة .
10. قال تعالى :{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} (21) سورة الفجر , كلمة ( دكت ) تعنى تسوية الأرض يوم القيامة لتكون قاعاً صفصفاً , وتكررت الكلمة ثلاث مرات , بالفعل ( دُكّت ) والمصدر المكرر (دَكًّا دَكًّا ) , ولو رددت بلسانك ( دك دك دك دك ) لو جدتَ أن اللفظ في الآية مناسبٌ للحدث العظيم , ولله في ذلك حكمة .
هذا ما لدي أحبتي حول هذه الوقفة , وأنا مؤمن أن كتاب الله تعالى مليءٌ بمثل هذه الوقفات الصوتية التي تحكي الحدث , ولكنها تحتاج إلى تأمل وتمعن .
وبهذه الوقفة أكون قد أنهيت هذه الحلقات المباركة مع نهاية الشهر الكريم الذي أسأل الله تعالى أن يتقبله منا , وأن يجعلنا في ختامه من المقبولين الفائزين , إنه جواد كريم .
وإني أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الوقفات , وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل , وما كان فيها من صواب فمن فضل الله ونعمته , وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله تعالى أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
30/9/1431 هـ