الوقفة السادسة عشرة : فروق بين التائبين :
قال الله تعالى : {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (149) سورة الأعراف .
قرأتُ هذه الآية فتذكرتُ آية آدم عليه السلام وتوبتَه في أول السورة حين قال هو وزَوْجُه – عليهما السلام - : {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف .
فذهب بي الخيال إلى الفرق بين التوبتين هنا , والفرق بين الكلامين , وكلام الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فآدم عليه السلام بَدأ بالمغفرة قبل الرحمة , وآية بني إسرائيل بُدِئَ فيها بالرحمة قبل المغفرة , والفرق بين التعبيرين والله أعلم : أن آدم عليه السلام أحسن دعاء , وأكمل توبة من بني إسرائيل , ولذلك بدأ بقوله ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) وهذا اعترافٌ بالخطأ ابتداءً , وهو خطأ يسير ( الأكل من الشجرة ) في مقابل خطأ بين إسرائيل العظيم ( عبادة العجل ) .
فبيّنَ آدمُ وزوجه عليهما السلام أنهما ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة وعصيان أمر ربهما سبحانه , ولهذا ابتدآ التوبة بقولهما ( ربَّنا ) , وسميا الخطيئة ظُلماً لأنفسهما , لأنهما سيتحملان تعبة هذه الخطيئة , ولن يقع الذنب إلا عليهما أنفسِهما , فهما قد ظلما أنفسهما بهذا العصيان ( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
ثم قال آدمُ ملتمساً من ربه تعالى أن يغفر له هذا الذنب والخطيئة ( لئن لم يغفر لنا ) , فبدأ بالمغفرة لأن الذنب الحاصل منهما يحتاج مغفرة من ربهما سبحانه بعد اعترافهما بذنبهما , وإذا حصلت المغفرة فلم يبق إلا أمرٌ واحد , وهو أن يَرْحَمَهُمَا ربُّهُما بإبقائهما في الجنة بعد توبتهما .
أما بنو إسرائيل فالأمر مختلف , فتوبتهم أقل من توبة آدم , مع عظيم ذنبهم , وسوء جرمهم , ولذلك جاء التعبير ( ولما سُقِطَ في أيديهم ) أي : لما جاءهم موسى عرفوا أنهم قد أذنبوا فقلبوا أيديهم حَسْرَةً , وعضُّوا أصابِعَهم نَدَماً , ورأوا أنهم قد ضلوا : أي علموا ضلالهم وعِصيانهم , قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا , فبدؤوا بالرحمة قبل المغفرة لأنهم يطلبون من الله تعالى أن يرحمهم أولاً , وأن ينظر إليهم بعين الرحمة الواسعة منه سبحانه , ثم يغفر لهم بعد ذلك , وإن حصل لهم ذلك فقد حصل مرادهم , وإن لم يحصل الأمران كانوا من الخاسرين , وكأنهم لم يكونوا جازمين بمغفرة ذنوبهم لعظيم ذنبهم من جانب , ولقلة إيمانهم وضعف ثقتهم بربهم من جانبٍ آخر , ولهذا لم يعترفوا بظلم أنفسهم كما فعل آدم عليه السلام , وإنما سُقِطَ الأمر في أيديهم من غير اختيارهم كما يقال : سُقِطَ في يده إذا وقع في أمرٍ يوجب الندامة كما قال تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا } (42) سورة الكهف , وحينئذ يَعَضُّ يديه ندامة على سوء ما صنع : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (27) سورة الفرقان .
هذا ما تبيَّنَ لي في الفرق بين الآيتين الكريمتين فإن أصبتُ فمن الله , وإن أخطأتُ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله وأتوب إليه .
16 / 9 / 1431 هـ