فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، مع عدم المجاوزة لِما يستحقه الجاني من الردع.
فلم يشرع الله في الكذب قطع اللسان ولا القتل..
ولا في الزنا الخصا.. ولا في السرقة قتل النفس..
ولا في القذف إزهاق الروح.
وإنما شرع سبحانه ما هو موجب أسمائه وصفاته من رحمته وحكمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن العدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه خالقه ومالكه، فلا يطمع في استلاب حق غيره ظلماً وعدواناً.
ولهذه الجنايات مراتب مختلفة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر، والقلة والكثرة.
ومعلوم أن الضربة بالعود لا يصلح إلحاقها في العقوبة بالضربة بالسيف..
ولا النظرة المحرمة بعقوبة مرتكب الفاحشة..
ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب..
ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الكثير..
فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، ومعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، ولعظم الاختلاف، واشتد الخطب، لقصور علمهم، وضعف رؤيتهم، واختلاف مداركهم وعقولهم.
فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، فكانت عدلاً ورحمة.
ثم بلغ من سعة رحمته وجوده سبحانه أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها،
وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه لا سيما مع التوبة منها.
فرحمهم الله سبحانه بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة.
وجعل سبحانه هذه العقوبات دائرة على ستة أصول:
القتل.. والقطع.. والجلد.. والنفي.. وتغريم المال.. والتعزير.
فالقتل جعله الله عقوبة على أعظم الجنايات كالجناية على النفس، وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، فهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة، إذ بقاء هذا الجاني بين أظهر العباد مفسد لهم، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة، فهو كالعضو الفاسد فناسب بتره وقطع دابره؛ صيانة للدين وأهله من شره.
وجعله كذلك عقوبة على الجناية على الفروج المحرمة كالزاني المحصن؛ لما في جنايته من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب.
وأما القطع فجعل عقوبة مثله عدلاً..
وعقوبة السارق الذي اقتطع مال غيره، فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم.
ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق، وعدوانه أعظم، ضم إلى قطع يده قطع رجله، ليكف عدوانه عن الناس، ورحمه بأن جعل القطع من خلاف فأبقى له يداً من شق، ورجلاً من شق.
وأما الجلد فجعله سبحانه عقوبة على الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يوجب القتل ولا إبانة الطرف.
فسبحان الحكيم العليم بخلقه، جعل إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضرراً، وأشدها فساداً في العالم وهي:
الكفر الأصلي والطارئ.. والقتل.. والزنا من المحصن.
وإذا تأمل العاقل فساد الحياة رآها من هذه الجهات الثلاث وقد سأل عبد الله ابن مسعود t رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟
فقال:
« أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ »
قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟
قَالَ:« وَأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَـخَافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ » قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟
قَالَ:« أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ » (متفق عليه) *[1].
فأنزل الله تصديق ذلك بقوله:
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)[الفرقان: 68].
ثم لما كانت سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع اليد،
ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد.
ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها.
ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف.. والقلة والكثرة، وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بالتعزير بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم أنفسهم بمعاقبتهم بما يردعهم ويكف شرهم ويصلح أحوالهم وحال الأمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4477)، واللفظ له، ومسلم برقم (86).
[hr]#ada4a4[/hr]
[img2]http://www.u06p.com/up/upfiles/yfl73170.gif[/img2]