المناطق المنكوبة في أتشيه
المساعدات الطارئة لضحايا تسونامي لم تكن بالمستوى المطلوب وبوابة مكة تستغرب تأخر العرب
في الطريق إلى باند أتشيه المدينة الأكثر تضررا والأقرب إلى مركز الزلزال " تسونامي في المحيط الهندي، حلقت بنا الطائرة من جاكرتا العاصمة الإندونيسية ساعتين هي المدة الزمنية اللازمة لبلوغ مطار جزيرة ميدان شمال البلاد، وقد تحول إلى مركز استقبال للمساعدات الدولية لصالح المتضررين في الإقليم الإندونيسي المدمر.. وعلى جوانب المدرج رأينا الحاويات الإغاثية والغذائية والطبية متراكمة مالئة ساحة المطار.. وسرعان ما عدنا لنقلع من جديد صوب المدينة المنكوبة باند أتشيه عاصمة الإقليم المتضرر ولحظة الاقتراب من مطارها تعالت صيحات الركاب وخصوصا الإندونيسيين من هول المناظر المأساوية التي رأوها على الأرض وحجم الدمار الكبير ومستنقعات المياه والتربة المجروفة.. وباختصار اختفاء معالم المدينة التي عهدوها تضج بالحركة والجمال الطبيعي.
تشعر وأنت في المطار، أنك وسط قاعدة عسكرية. فثمة طائرات مروحية رابضة وأخرى محلقة من نوع إف 16 وإف 15، بالإضافة إلى طائرة النقل العسكرية "سي 130"، يجمع بينها العلم الأمريكي الذي يعلو مقدماتها. وفي ناحية غير بعيدة من صالة الركاب حولت مظلات الحاويات إلى مخيم مؤقت للمشردين من منكوبي تسونامي وسرعان ما يرى الخارج من الصالة علامات البؤس والشقاء ترتسم على محيا اللاجئين ويزداد شعورك بالأسى وأنت تراهم يتسابقون على حمل الأمتعة لقاء أجور زهيدة.
في الطريق إلى وسط المدينة وعلى مسافة تقدر بـ 15 كلم خضنا غمار الزحام الشديد، فالطريق ذو المسار الواحد قد امتلأ بشاحنات نقل الموتى والآليات العسكرية للقوات الإندونيسية والقوات الأجنبية بالإضافة إلى سيارات المنظمات الإنسانية الدولية والدراجات النارية التي تعتبر وسيلة النقل الرئيسية للسكان المحليين. حين بلغنا المدينة عرفنا سر ذلك الزحام حيث لم يبق هناك طريق سالك إلى المدينة سوى هذا الشارع الضيق والمتضرر هو الآخر من الكارثة، وما هي إلا دقائق معدودات حتى صدمنا بالمشهد الكارثي الشامل وهول الدمار الهائل للمد البحري المدمر "تسونامي". فقد جعل أعالي المدينة أسافلها، ونشر رائحة الموت والدمار في أرجاء المدينة، وانتشرت فرق البحث عن الجثث والمفقودين في كل مكان تفتش عنهم بين أكوام الحطام في المدينة الشاطئية التي سوي نصفها بالأرض تماما بعد أن قذف الطوفان بكل شيء في قلب المدينة لمسافة راوحت بين 7 و10 كيلو مترات، ولذا ترى بعض السفن الضخمة ملتصقة بمحلات تجارية في وسط المدينة!! كما تنتشر شباك الصيد والكائنات البحرية بجوار ركام المباني المهدمة رغم أنها على بعد 10 كيلومترات من الشاطئ! ولما كانت المعدات اللازمة لعمليات الإنقاذ غير متوافرة فقد لجأ السكان المحليون للفيلة في إنقاذ ما تبقى من مدينتهم وفي عمليات رفع الأنقاض والتفتيش عن المفقودين واستخراج الجثث وسحب السيارات المعطلة من وسط الركام الهائل.
وفي ملمح غريب ولافت لا يخطئ الزائر لموقع الكارثة صمود الكثير من المساجد أمام طوفان تسونامي، بينما تحطم كل شيء حولها.. ومن بين عشرين مسجدا لم يتضرر سوى خمسة مساجد فقط!! وحتى المتضررة بقيت إحدى المنارات شامخة وهي تحمل لفظ الجلالة.. ولجامع بيت الرحمن الذي انتشرت قصته في وسائل الإعلام قصة تستحق السرد. فالمسجد الذي يعود إلى القرن الثاني عشر الهجري كان في قلب المد البحري تماما وقال لنا شهود عيان إن مياه الأمواج العاتية انشطرت قبيل بلوغه وتجنبت دخوله مباشرة ولم تتجاوز المياه بعض عتباته الخارجية، مما كان سببا في نجاة الآلاف من السكان الذين لجأوا إليه وقت الكارثة، وسرعان ما تحول إلى مركز للمشردين.. فيما اقتصرت الأضرار التي أصابته على إحدى المنارات التي بنيت حديثا.
ومن الأساطير المنتشرة ويروجها قرويون هناك أن 6 أشخاص نجوا من الكارثة لأنهم احتموا بالمقبرة التي تضم قبر أحد الصالحين وهو الشيخ عبدالقادر الذي انتشر الإسلام على يده في أتشيه ثم انتشر منها إلى بقية الجزر الإندونيسية. كما يروي بعضهم سماعهم صوتا قويا لاحتكاك صفائح الأرض متلوة بصوت الزلزال الذي شبهوه بصوت الرعد.
وعلى الصعيد الاقتصادي دهورت الكارثة الأوضاع المعيشية في الإقليم الذي عاش سكانه عقودا من الزمن في صراع مع السلطة المركزية بسبب ما أسموه بقمع حكومات جاكرتا المتلاحقة لهم،إلى عهد الرئيس المخلوع سوهارتو. وينتشر الفقر بين سكان الإقليم الغني بالكثير من الثروات الطبيعية ومن بينها النفط، ويتسم سكانه بالمحافظة والتمسك بتعاليم الإسلام حيث يحلو للإندونيسيين تسمية الإقليم بـ"بوابة مكة" لدوره المحوري في انتشار الإسلام في الجزر الإندونيسية الأخرى بعد أن اعتنق سكانه الإسلام في القرن الثاني الهجري على يد التجار العرب.
الوضع الإنساني /
الوضع المعيشي للسكان الناجين من كارثة تسونامي في إقليم أتشيه مترد للغاية. ويعيش الإقليم أزمة في كافة الخدمات ونقصا في الوقود بعد دمار غالبية المحطات ولجوء أصحاب السيارات والدراجات لبائعي الوقود الجائلين حيث يبيعونه بمبالغ مرتفعة تصل إلى 50 ألف روبية (520.5 ريالاً) للتر الواحد، كما تضاعفت أسعار الشقق والمباني والغرف لندرتها وشدة الإقبال عليها وكذلك أسعار السيارات والمواد الغذائية فالرز الذي يعد أحد المواد الأساسية في البلاد ارتفع سعره خلال أسبوعين فقط من ألفي روبية إلى 5 آلاف روبية (2.5 ريال) للكيلو الواحد!
تهديد الوحدة الوطنية /
ويثير الوضع المتفاقم بعد كارثة تسونامي لدى الحكومة والشعب الإندونيسيين مخاوف حقيقية من انفصال إقليم أتشيه الذي يضم 15 مقاطعة ولاسيما بعد وصول 16ألف عسكري أجنبي تحت غطاء المساعدات الدولية، ووجود أكثر من 8 آلاف مسلح ينتمون لجبهات انفصالية في الإقليم.. بالإضافة إلى أن حاملة الطائرات الأمريكية "أبرهام لنكولن" تبحر على مقربة من شاطئ باند أتشيه وتتابع كل ما يدور في الإقليم.. وقد رصدت الحكومة المركزية في جاكرتا تحركات جديدة في بعض المقاطعات لمتمردين من حركة أتشيه الحرة "بام" التي تطالب بانفصال الإقليم منذ 1976م. كما رصدت نشاطات تجسسية لأجانب من فرق المساعدات، وهو ما يعزز مخاوف الإندونيسيين على كافة المستويات من تفاقم الوضع الأمني والسياسي في الإقليم..
وقد عرضت الحكومة إجراء مباحثات مع حركة أتشيه الحرة لتهدئة المخاوف الأمنية في الإقليم قبل نهاية الشهر الجاري، وفي سبيل تطمين القائمين على الإغاثة والتضامن مع ضحايا الكارثة حيث قضى الرئيس الإندونيسي سو سيلوا بامبانج يودويونو فترة عيد الأضحى في الإقليم.
كما تحركت الحكومة التي وافقت على الوجود الأجنبي العسكري في الإقليم بعيد الكارثة مباشرة، فطالبت برحيل هذه القوات بعد أسبوعين من الكارثة وقال نائب الرئيس الإندونيسي يوسف كالا "إنه يتعين على القوات الأجنبية مغادرة الإقليم بحلول نهاية مارس المقبل، وفي مطلع هذا الأسبوع حذر رئيس جهاز الاستخبارات الإندونيسي سيامسير سيرجار مسؤولي الحكومة من أن الأجانب المشاركين في جهود الإغاثة ربما يستغلون الفرصة للقيام بأعمال تجسس. وقال: "بالطبع الولايات المتحدة لها مصالح.. وستستغل هذه الفرصة لمراقبة الظروف الجغرافية في إقليم أتشيه ومضيق مالاكا عن قرب"، محذرا في الوقت نفسه من المبالغة في ذلك، ومشيرا إلى أن الولايات المتحدة وأستراليا تسعيان منذ فترة طويلة لنشر قوات عسكرية في مضيق مالاكا الواقع قرب جزيرة سومطرة التي يقع فيها إقليم أتشيه المتضرر.
وفي الجانب غير الرسمي يعتقد زعيم الجبهة الدفاعية الإسلامية بإندونيسيا الشيخ رزق بن حسين آل شهاب الدين أن الشعب الإندونيسي لا يرضى بوجود هذه القوات الأجنبية وبخاصة الأمريكية، وأن وجودها يهدد الاستقرار في الإقليم وقال: "نحترم قرار الحكومة. ووضعنا ثلاثة شروط لوجود هذه القوات وافقت الحكومة عليها. وأولها، أن تراقب الحكومة جميع الأجانب الموجودين في الإقليم. ثانيا: أن يكون وجود تلك القوات لفترة محدودة وفي أماكن محدودة ووفق مهام محددة. وثالثا: أن تخلو جميع المساعدات من أي أهداف غير إنسانية وألا تحمل دعوات لديانات أخرى".. واستغرب رزق تأخر وصول المتطوعين من الدول العربية لمساعدة المتضررين مرحبا بوجود قوات عربية وإسلامية تشارك إلى جانب القوات الأجنبية في إزالة الأضرار وإعادة الإعمار.
ويركز الأستاذ بجامعة الرانري بأتشيه الدكتور اليسع أبو بكر على الحاجة إلى المساعدات الطبية وليس القوات العسكرية، كذلك الحاجة إلى مساعدات في بناء الجسور وإعادة بناء شبكات المياه والصرف الصحي.
الجهود الإغاثية /
ميدانيا، يشرف فريق حكومي برئاسة وزير رفاهية الشعب علوي شهاب على عمليات الإغاثة والمساعدات ويدير فريقا حكوميا من كافة قطاعات الحكومة ومئات المنظمات الدولية من 31 دولة تشارك بفرق فنية وطبية وعسكرية للتعامل مع نتائج الكارثة في الإقليم.
وفي الجانب الصحي يعيش نحو 500 ألف مشرد من تسونامي في إقليم أتشيه الإندونيسي في 21مخيما. ووفقا لما ذكره أحد الأطباء الأمريكيين العاملين في برنامج الصحة العالمية، تؤكد تقارير أولية لمنظمة الصحة العالمية وجود مؤشرات على انتشار أوبئة تهدد الصحة العامة.
وقال الدكتور ألي إتش مكداد: "انتشرت في صفوف المشردين بعض الأمراض بسبب التلوث الناجم عن عدم وجود شبكات صرف صحي وعدم فاعلية دورات المياه الحالية التي سرعان ما تمتلئ بسبب المستنقعات والطفح الناتج عن قرب المياه الجوفية من سطح الأرض".
وقال مبعوث منظمة الصحة العالمية بتر هفلان إن منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود قدمت الرعاية الطبية لخمسة آلاف شخص في مخيمات المشردين مشيرا إلى أن هناك 100 طبيب يعملون في أتشيه والأقاليم الإندونيسية المتضررة وهم يستقبلون يوميا من 1200 إلى 1400 مريض بالإضافة إلى ذلك قدمت المنظمة وفرق الأطباء مساعدات غذائية وطبية ومستلزمات طبية للأطباء المحليين، وتنفذ المنظمة عددا من البرامج الوقائية والدافعة للصحة.
وقي مجال الغذاء قالت مبعوثة منظمة الأغذية العالمية ومديرة "فاو" في آسيا "آسيا طوني بمبوري" إن منظمتها تنفذ مشروعا لتوزيع الغذاء على المشردين في المخيمات بالتعاون مع الجمعيات الدولية كالفرق العسكرية السنغافورية والقوات الأمريكية، موضحة أن المنظمة وزعت 6500 طن من الأغذية اشترتها من مدينة ميدان ومدن سومطرة القريبة من الإقليم المتضرر بالإضافة إلى شراء مواد من الدول المجاورة.. ويتم توزيعها في المناطق المعزولة عن طريق طائرات الهيلوكبتر حيث تشارك 45طائرة مروحية في توزيع المساعدات في ملايو وعدد من الجزر التي دمرت المواصلات البرية بينها.
من جانب آخر أوضحت المديرة التنفيذية لبرامج الأمم المتحدة في سومطرة "ديانا جنسون" أنه تم تفعيل برنامج لتشغيل المشردين في تنظيف المدارس والطرق مقابل 3.9 دولارات أمريكية للعامل الواحد، مبينة أنه تم حتى الآن تشغيل نحو 1000عامل سيستمر عملهم لمدة 3 أشهر في أتشيه، بالإضافة إلى تشغيل 200 آخرين في ملايو، مؤكدة أن نجاح البرنامج يتنامى عبر تشغيل أعداد كبيرة من المشردين بتعاون المؤسسات الدولية والحكومة الإندونيسية، مشيرة إلى أن العمل بدأ في مشروع لإصلاح سفن الصيادين وإعطائهم الآلات ومستلزمات الصيد ليعودوا إلى نشاطهم ويتجاوزوا الكارثة ويعتمدوا على أنفسهم.
دفن 500 جثة يومياً /
وعلى صعيد انتشال الجثث والبحث عن المفقودين يقوم الجيش الإندونيسي والمنظمات المحلية وعدد من فرق الإنقاذ الأجنبية بالبحث عن المفقودين تحث ركام المباني المهدمة ووسط المستنقعات التي خلفها المد البحري وتتولى الفرق العسكرية الإشراف على المقابر الجماعية في حين تعمل منظمات محلية على دفن الموتى بشكل منظم.. ويقول رئيس الجبهة الدفاعية الإسلامية الشيخ رزق آل شهاب الذي تشرف منظمته على انتشال الجثث وتكفين ودفن الموتى: "ننتشل يوميا نحو 500 جثة ونقوم بتكفين الموتى ودفنهم وفق الشريعة الإسلامية ويشارك 1000شخص على شكل فرق في الانتشال والتكفين والصلاة والدفن والعمل مستمر على هذا الوضع منذ حلول الكارثة التي مضى عليها نحو 28يوماً.. مضيفا: "نعمل بأيدينا فقط بدون أي مساعدات من الحكومة.. والعمل بهذه الطريقة قد يستغرق 6 أشهر إلا أنه سيكون سريعا في حال أمدتنا الحكومة بالآلات اللازمة وقد نستطيع خلال 3 أشهر الانتهاء من انتشال كل الجثث".
تهريب الأطفال المشردين
من جانب آخر منعت الحكومة الإندونيسية جميع المنظمات الأجنبية من مباشرة رعاية الأيتام وأسندتها لمؤسسات وجمعيات محلية. وأوضح الشيخ رزق آل شهاب أن هذه الإجراء جاء بعد أن تم رصد عمليات مشبوهة لمنظمات غربية.. وعلى سبيل المثال طردت الحكومة الإندونيسية منظمة "وورد هيلب" (world help org.) الأمريكية بعد أنباء عن تهريبها 300 طفل من أتشيه.. ويطالب آل شهاب الحكومة الإندونيسية ألا تكتفي بهذا الإجراء وأن تقوم بالتحقيق في القضية وإرجاع الأطفال المهربين. كما كشف آل شهاب عن اتفاق عقده وجهاء أتشيه مع عدد من المنظمات المحلية يقضي بمراقبة رعاية الأيتام ومتابعة أي نشاطات مشبوهة للأجانب مهددا بعقوبة القتل لمن يتورط بأعمال التهريب أو التنصير.
وعود فقط /
وأبدى المسؤول الإعلامي في أعمال الإغاثة الإندونيسية نوشروان مامون مخاوفه من أن تتبخر الوعود الدولية لمساعدة ضحايا تسونامي كما حدث لضحايا زلزال "بام" في إيران قبل سنوات خاصة أنه لم يصل منها حتى الآن إلا جزء يسير جدا". وقد بلغ حجم المساعدات الدولية للمتضررين من تسونامي التي تعهدت بها الحكومات والمنظمات الدولية أكثر من 7 مليارات دولار لمساعدة ضحايا الكارثة في آسيا، إلا أن المساعدات الطارئة التي طالبت بها الأمم المتحدة البالغة 977 مليون دولار لتلبية الاحتياجات الأساسية للضحايا على مدى 6 أشهر، لم تتوافر كاملة حتى الآن حيث تعهد المانحون بدفع 739 مليون دولار ومازالت نداءات الاستغاثة من المؤسسات الدولية مستمرة للتخفيف من آثار أكبر كارثة مدمرة في العصر الحديث.
بوابة مكة تستغرب تأخر العرب
العرض العادي
