إخوتي الكرام :
أرغب الإيضاح المسبق لما أنوي كتابته لتكونوا على علم به أهو يستحقّ متابعة القراءة أو عدمها , وعليه فسيكون كلامي في أربعة تعقيبات مرتبة على النحو الآتي - إن شاء الله تعالى - :
1- وقفتين مع شريحتين فقط من أدب الحوار عند أصحاب المحاولة الأولى لإشاعة فضيلة النظر والاستدلال العقلي بزعم الرويبضة إياه
2- بيان مآل رؤوس هؤلاء المبتدعة , نكالا من الله بهم , وشفاء لصدور المؤمنين
3- تعليق يسير على لهجة المقال إياه وما بها سفال القول .
مع تعقيب بحديث أخوي للأخ الكريم أبا الخيل بصيغة لمحة من بضعة أسطر .
-------------------------
أترككم مع الشريحة الأولى , وهي كغيرها من شرائح حوارهم ( المحترم ) عسيرة الهضم تمثّل إحدى نفحات أصحاب (( المحاولة الأولى )) لإشاعة فضيلة النظر والاستدلال العقلي – المعتزلة والجهميّة - !
((( وانتبهو إلى أن التعليقات بين الأقواس داخل النص هي من محدّثكم المحبّ )))
أترككم مع الإمام أحمد بن حنبل يروي لكم فصول المحاولة الأولى المزعومة لإشاعة فضيلة البحث والاستدلال العقلي , أو على الصحيح فصول الفترة الرهيبة والنكسة المريعة للمجتمع المسلم بترك أهل البدع الضالة يعيثون فسادا في عقيدة وفكر المسلمين , ويمارسون أنواعا مرعبة من الإرهاب الفكري والنفسي والجسدي لكلّ من نادى بالحوار المتزن الواعي المبني على أساس قال الله تعالى , وقال رسوله صلى الله عليه وسلم
اقرؤوا ما رواه أحمد عن نفسه وكيف أنّ هؤلاء الذين تباكى عليهم الكاتب إياه ليسوا سوى أصحاب المحاولة الأولى لهدم الحوار البنّاء القائم على احترام الآخر , والعدل معه , وسماع رأيه , والردّ على الحجة بالحجة , والتسليم بالحق إذا ظهر !
قال الإمام - رحمه الله - حاكيا الحال , بعد أن أحضره المعتصم من السجن الذي كان مكث فيه ثلاث سنوات خلت , ودّع خلالها في السجن علماء ماتوا من أثر العذاب في السجن كأبي يعقوب , ونعيم بن حماد - رحمهما الله وتقبّلهما في الشهداء - ناله خلالها وقبلها من العذاب ما يعقد لسان كلّ رويبضة يمجّد المعتزلة , وكان قد مات تحت التعذيب تلك الفترة علماء فضلاء كمحمد بن نوح رحمه الله وتقبّله في الشهداء , استدعاه المعتصم وطلب زيادة الأغلال حتى لا يهرب أو يطيق تصرّفا – نظرا لما رسمه المعتزلة في ذهن المعتصم من صورة سيئة عن الإمام قبل رؤيته له !
قال :
فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق عليَّ وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذ أنا على القبلة و لله الحمد.
ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال:
أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل ؟
فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال:
اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت:
يا أمير المؤمنين إلام دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.
قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يدِ مَن قبلي لم أتعرض إليك.
ثم قال: يا عبد الرحمن ! ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟((( يخاطب عبد الرحمن بن غوث المعتزلي صاحب البدعة , وهذا التساؤل من الخليفة يدل على أنّ المعتصم أقرب للحوار منهم , ولكنّهم يلبّسون عليه , ويخالفون أمره )))
قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج المسلمين.
ثم قال ناظره: يا عبد الرحمن كلّمه.
فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه.
فقال المعتصم: أجبه.
فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت.
فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله. فسكت.
فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين ! كفَّرك وكفَّرنا ((( انظروا التحريض والاستعداء ! فيالهم من محاورين نزيهين . بل يا لشناعة الإرهاب ))) . فلم يلتفت إلى ذلك.
فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن.
فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.
فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا،
فقلت: يا أمير المؤمنين ! أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.
فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا ؟
((( يا مبتدع !!! وهل عيب الإمام أنه يقول بالقرآن والسنّة , وهل بعد هذا الاعتراض من ضلال , نسأل الله السلامة )))
فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
قال الحافظ ابن كثير :
وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }
وبقوله : { الله خالق كلّ شيء }
وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله : { تدمّر كل شيء بإذن ربها }
فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم. ((( الإمام ضال مضل مبتدع يا ظالم ؟!!! قمّة الأدب في الحوار , واحترام الآخر . عجزوا عن مقاومته بالحجة والدليل والعقل فلجأوا إلى استعداء الخليفة عليه وتحريضه !)))
فقال لهم: ما تقولون ؟
فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد،((( يا عيني عليهم , طبعا كلّهم بالهوى سوى , ماله داعي يسألهم )))
ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضاً، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم.
قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها ((( هؤلاء هم لاصلة لهم بالنصوص الشرعية إلا بقدر ما يثبت زعومهم , أما عمدتهم فتقديم ما ينقدح بالعقل على نصوص الشرع )))
وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحداً يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، وليس كمثله شيء، فسكت عني.
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاماً يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟
وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد ! أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.
فأقول: يا أمير المؤمنين ! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها. ((( أخزاهم الله ! هذا الخليفة غير المتبحر في العلم الشرعي صار أكثر منهم تعقّلا وحكمة )))
قال الحافظ :
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى :{ يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا }
وبقوله : { وكلّم الله موسى تكليما }
وبقوله: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني }
وبقوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }
ونحو ذلك من الآيات. فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! هذا كافر ضال مضل. ((( أحسنت تشخيصهم أيها الحبر , فما انتصروا في حوارهم بالعقل ولا بالنقل , وإنما انتصروا بالإرهاب والتعذيب والقتل لمن خالفهم )))
وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ! ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين.
فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء.
قال أحمد: فعند ذلك قال لي:
لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني.
ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.
قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين.
فقلت: يا أمير المؤمنين ! الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث )). وتلوت الحديث.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)): فبم تستحل دمي، ولم آت شيئاً من هذا؟
يا أمير المؤمنين ! اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.
ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين ! إنه ضال مضل كافر. ((( مستميتين لإسكات المعارض بأي طريقة إلا الحوار , نعم إلا الحوار ))) !
فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شد قطع الله يديك.
ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربني أسواطاً فأغمي عليَّ وذهب عقلي مراراً، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك ! الخليفة على رأسك ((( خوش حوار , يعني سلّم لنا غصب أو تروح فيها !!! والله حاله !))) فلم أقبل, وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين ((( تتلذّذون بتعذيبه وتريدون قتله في رمضان يا ظلمة !؟ ما أظنّ هذا من أدب الحوار !)))
ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله ...
وقد كان الإمام أحمد رجلاً رقيقاً أسمر اللون، كثير التواضع، رحمه الله.
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال له ابن سماعة القاضي: وصليت في دمك !
فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً، فسكت.
قال الحافظ :
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحماً ميتاً من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندماً كثيراً , وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: { وليعفوا وليصفحوا} ((( رحمك الله , فهذا نهج أهل الحق , تلمّس العذر للمخطئ , والصفح عن المسيء , رغم أنك متّ متأثر من تعذيب من ظلموك )))
ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: { فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } ............... الخ
رحم الله الإمام فقد مات من أثر ذلك العذاب أخزى الله أولئك المبتدعة , وشواهم في جهنّم .
هل تذوّقتم طعم أدب الحوار عند المعتزلة واستفدتم من دروس المبتدعة المتكلمين في فضيلة النظر والاستدلال العقلي ؟! أو نزيد ونزيد ؟
فسفر التاريخ حافل بالمزيد .
وإلى لقاء مع الشريحة الثانية
-----------
أخي الكريم صلاح الدين :
جزاك ربّي خيرا عنّي بحسن ظنّك بي
وإنّي راجيك أمرين غير مقيل لك :
أولهما :
ألا تعطيني أكثر مما أنا , فما أنا إلا مغمور من العامة والله العظيم ( انظر أقسمت , ويلزمك أن تصدّقني )
وثانيهما :
أن تترك كلمة سيّدي فأنا أكرهها , وهي غير حميدة , وقد وصفتني بها وما أنا بسيد لك ولا أستطيع , فأنت أشرف وأجلّ , وأنا أعلم أنها من لغو الكلام الذي لا يقصد معناه , ولكنّها تظلّ بغيضة لأكثر من سبب .
جمعني الله وإياك والقرّاء من أخواننا المسلمين في رياض الجنّة
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله