لوّح بعينيه ورحل ..لم يقوى على حمل يده فاكتفى أن وسّد رأسه يده ثم نام ..
هو أكبر من الحزن .. هو الأب الروحي للبسمة ..لم يستطيعوا أن يسرقوا منه الفصل الأخير من الفرح فنام مبتسما
رحل .. كنورس أتعبه البقاء يلوّح للطيور الحزينة ..
تعبت كتفاه من حمل الجنائز .. من الخرائط المرسومة في ذاكرته عن الأموات .. فحمل روحه شمعة بينهم ..
كان يضحك للموت ..يقلبه بين كفيِّه .. ينشد له ..يسامره كل ليلة ..يحمله بين فرشه ..ثم يدفنه فجرا ..
كان أكبر من رائحة الإذخر .. من رائحة العبور المخيف .. من انحناءة في قبر .. من زفّة الموت ..فاختار الرحيل مع المطر ..
( أبو فهد ) قلب حمل هم الفقراء ..وعقل حمل غياهب المجانين .. قَرُبَ للأرض ليكون للأطفال أقرب .. وعلا للسماء ليكون لله أوفى .. ماخان براءة الأطفال ولا موعده مع الله ..
كان يحب الحضور من الأبواب المجانية .. يَضْحَكُ ويُضْحِك الحزن معه .. يلتفت للنداءات المكلومة أكثر من نداءات الفرح ..
أخفوا عن الفصل الأخير من حياته فكتبه هو بنفسه أن الدنيا أقصر من لحظة حزن .. فمات كما هو سعيد بلقاء ربه
اليوم هو أكثر بسمة .. أكثر ضحكة .. أكثر سخرية بالحياة التي قاومت ضحكته فحزنت عليه وَضَحِكَ منها ..
يرحل هذه الساعة واقفا عادة المنتصرين .. يُلَوِّحُ لعياله -وكلّنا عياله- الذين ظلوا فترة حياته يتامى لحضوره الوسيم .. يرسم لهم خرائط الفرح .. هندسة الضحكات .. أبواب الفقراء .. بسمات المهمومين .. حاجات الآخرين ..... أيّنا يجيدها بعد رحيلك أبا فهد ؟!!
ضاق به السرير الأبيض كصغير يتخلص من مهاده .. رمى لهم أجزانهم وسارع حيث الفرح الأبدي ..
أخطأ هذه المرة .. أراد أن يُطَهِّرَ دموع الحزن فدخل للحزن ذاته ..للألم ذاته .. أراد أن يحتضنه ليخرجه حزيناً أسيفا .. لم يُطِقْ هذا الألم فاستشهد في عين الوجع
وخرج أبيض مبتسما يوزع غنائمه من الحزن علينا بعد غيابه ... ظفر بالموعد ..وغنمنا الحزن ..
كنت ضيفه الذي يجد فيني مرمى لتعليقاته .. وفي كل مرة أتظاهر بأني حارس غير جيد لأغريه بالتسديد .. فأنهزم أمام حُبِّه وينتصر هو أمام أحزاني ..
أراد أن تظل هذه اللعبة حتى صوته الأخير .. وقبل وفاته بأيام خمسة أومأ لي بعينيه أن اعترف بالهزيمة فغرقت بدموع الوداع ..
كنتُ أدرك أنها المرة الأخيرة .. الزيارة الأخيرة .. التلويحة الأخير .. الحزن الدائم ... فقبضت على كَفِّهِ الدافىء طويلا.. طويلا .. وعرفت أنني لأول مرة سأرى ظهره وقت حمله للقبر .. مانزعها مني .. ماسحبها .. كان هو يقبض عليها ..مسحتُ على جبينه .. وأودعته قبلة الرحيل ..علّه أن يذكرني بها وقت التزاحم الأخروي ..
بعده قبضت يدي عنهم لكي تبقى رائحته .. بعضُه .. وقصص من أبوّته لي ..
سأظل انتظره على مشارف الفرح ..وفي هزائم الحزن ..
على أبواب العجائز .. ومن جيوب المعوزين ..
على القبور ومن الشواهد ..وفي أفواه العجزة ..
على شبابيك الأرامل .. ومن الأزقة الضيقة ..
على السواعد السمر ...ومن حزن أبي عليه ..
على شرفة الليل يوقظ الفجر ..
عليك أبا فهد حيث ستبكي الجموع في أعيادها ..
سَيُسَجِّلُ الحزن أولى انتصاراته في حضورك ..
لـ روح الطيِّب / عبد الله بن عبد الكريم العييدي رحمه الله