اليوم عرضت بيتي للبيع ، يستحسن بكم أن تشتروه ، صدقوني بيت جميل على سفح تلة مخضرة ، في مستوطنة صغيرة وجميلة في شمال السهل الساحلي ، صحيح أنه مؤلف من ثلاث غرف فقط ، لكننا أوليناه العناية بمحبة ، فيه أيضا ولد ابننا ، الذي تجاوز عمره الآن عاماً واحداً ، ولد ذكي جميل الطلعة ، نشيط جداً كنت سأفرح لو أنه بقي يترعرع في هذا البيت ، لكنني وجدت من الأفضل ، من أجله ومن أجلي أن أترك كل شيء هنا ، أن أبيع وأسافر من هنا ، أن أترك البلد . لم يكن هذا الأمر هيناً ، لقد استغرقني أعواماً من الانفجارات وإعمال القتل ، من الأحزان والآمال ، من المجادلات والقلق ، لكنني في النهاية انهرت ، الانفجار في ملهى الدلافين حطمني ( يقصد العملية الاستشهادية التي نفذها سعيد الحوتري من كتائب القسام في ملهى الدولفنازيوم في تل أبيب بتاريخ 1/6/2001 والتي أدت إلى مقتل 21 صهيونياً ) ، لم أعد أحتمل أكثر من ذلك ، وهذا حال زوجتي أيضا ، كفى !! سئمت!! لا يمكن الاستمرار ، ونحن كما قال ذات مرة رئيس حكومة (.خ.ا.ئـ.ف.و.ن) ...
سئمنا أن نجدهم في كل مرة نفتح المذياع ، يتحدثون عن انفجارات ، عن دماء ، عن موت ، عن جنائز ، عن الجندي الذي قتل عشية انتهاء خدمته في الجيش والرحلة الكبرى التي كان يزمع القيام بها إلى الهند ، عن هذين اللذين كانا يخططان للزواج بعد ثلاثة أسابيع ، وقتلا بشظايا العبوة الناسفة ، عن الشقيقات الصغيرات اللواتي جئن ليرقصن ووجدن مقطعات الأوصال ، عن المهاجر الجديد الذي كان يريد أن يبدأ هنا حياة جديدة فوجد هنا موتاً بائساً مروعاً ، عن تشديد الإغلاق وتعزيز الحراسة ، والدعوات إلى الانتقام ودعوات شن الحرب ، وتصريحات الكراهية ، كم صار من الممكن أن يحيرك السؤال : من سيكون التالي في الدور من أقاربك أو معارفك ، من الأشخاص الذين تصادفهم في ممرات المكتب ، حيث تعمل ، من الجيران الذين يلعبون مع كلبهم في الحديقة ؟
يوم الجمعة الماضي بعد ثلاثة أرباع الساعة من التقارير الهستيرية المعتادة التي تبثها الإذاعة والتلفزة ، نظرت زوجتي إليّ بعصبية ممزوجة بالخوف ، وقالت أنت تحب الكتب كثيراً جداً ، وأنا أعرف أنك انتظرت طويلاً أسبوع الكتاب، لكنني خائفة هل يزعجك أن نلغي زيارة أسبوع الكتاب غدا ؟
وهكذا كان ، إننا نخاف الآن أن نذهب إلى مطعم ، أو مشاهدة فيلم في السينما ، أو أن نذهب في نزهة، أو أن نزور معرضاً وأنا افترض أن واحداً من الأذكياء سيأتي الليلة، ويقول أن احتمال الموت في حادث طرق أكبر من احتمال الموت برصاصة نتلقاها في الرأس ، … ربما … لكن حياتي ليست خطاً إحصائياً ، إنها تساوي أكثر قليلاً، أن أنماط الحياة هنا مضادة للطبيعة، وأوصي بحرارة الدولة التي افتخرت لأعوام أن "تل أبيب" أكثر أمناً من نيويورك" بأن تبدل موضع المدينتين في هذه العبارة ، فربما أصبح من الأصح القول أن "تل أبيب" أصبحت أقل أمناً من بلفاست " .
سيكون هناك من يأتي ويقول لي " أن ليس لنا بلد آخر" ، يا له من كلام فارغ ، إن الإنسان يعطي ولاءه للمكان الذي يحب ، هذا البلد الذي منحته خيرة أعوام حياتي وساهمت في بنائه بكد لم أعد أحبه، أن أعيش من أجله ، أنا مستعد أن أموت من أجله في ظروف معينة ، أمر لا سيطرة لي عليه ، في الحرب مثلاً ، أما أن أموت من أجله في ظروف كهذه … فلا .
ويبدو أن من سيحاولون إقناعي ، على أنواعهم ، يفضلون أن أموت هنا على أن أعيش في مكان آخر أما أنا شخصياً فأفضل الحياة … لا أخجل من ذلك .
كنا نحلم بأن يكون لابننا طفولة سعيدة ، والصحيح اليوم أنّ بانتظاره فترة مملوءة بالشكوك ومشحونة بالأخطار ، إلا أنه لا يستحق – كما لا يستحق أي ولد في الدولة – أن يعيش في ظل تهديد الموت ، وربما من الأفضل له أن يكبر في دولة أخرى ، أكثر أمناً وهدوءاً لا في دولة يصعد فيها المهرجون على أنواعهم إلى السلطة على ظهر وعود بأمن شخصي ليس في إمكانهم تحقيقه – وإنما في دولة يكون فيها هذا الأمن أمراً مفروغاً منه ، بحيث لا تكون ثمة حاجة إلى الوعد به .
وسيكون أيضا من يقول ، لدى قراءة هذه السطور أنني انتمي بالتأكيد إلى تلك المجموعة من ملتهمي الأجبان ومدمني الخمر ، التي ليس لها ذرة من التضامن مع المجتمع "الإسرائيلي" في محنه ، فليقل ، في دولة لا يحترم فيها حقك في أن تخطط لمستقبل أفضل لك ولعائلتك ، ربما تجد من يفضل أن أكون بطلاً ميتاً على أن أكون جباناً حياً ، أما أنا، في المقابل ، فأقدس الحياة – لا الموت .
الدولة لا تقلق لأمني ، ولذلك فإنني سأحدد بنفسي مستقبلي منذ الآن فصاعداً ، سأبيع البيت ، وأعيد القرض العقاري وأسافر من هنا ، لم أختر بعد إلى أين بالضبط ما الذي أبحث عنه : مكان صغير آمن ، بل يكاد يكون مضجراً ، زاخر بالمناظر الطبيعية وبالخضرة ، ولا يخاف الأولاد الصغار فيه من الذهاب إلى السينما أو اللعب في المنتزه ، هنا عندنا سيخافون دائماً … وبحق ..