الوقفة العشرون : من حَفَرَ حُفْرَةَ لأخِيهِ وَقَعَ فِيها :
نسمع بهذا المثل كثيراً منذ نعومة أظفارنا , وأخذناه في المدارس , وقرأنا قصصه , ويبدو أنه تحديثٌ لِقَولِ ( مَنْ حَفَرَ مُغَوَّاةًَ وَقَعَ فِيهَا ) , والمغَوَّاة ( بتشديد الواو ) حفرة تحفر لاصطياد الضَّبُع أو الذئب [ مجمع الأمثال : 3 / 306 ] , والمثل يدور حول مَنْ حاول إيذاء غيره ونصب الحبائل له , فإنه يقع في شر أعماله , ويعود وبال عمله عليه .
وقد وجدتُ هذا المعنى في كتاب الله تعالى أبلغ وأكمل , وهو قوله سبحانه : {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } (23) سورة يونس .
فقوله : (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ) يدور حول هذا المعنى بأسلوب أوجز وأبلغ , فالآية مبدوءة بأداة الحصر ( إنما ) للدلالة على تأكيد هذا المعنى , وأن من أراد الشر والإفساد في الأرض فإنما يعود عليه , وقوله : ( على أنفسكم ) هذا يسمى عند البلاغيين ( مقصوراً عليه ) أي أن البغي مقصورٌ على أنفسهم لا على أحد غيرهم , والتعبير بالأنفس هنا للتأكيد على أن الضرر يعود عليهم أنْفُسِهم لا على ديارهم ولا على أموالهم ولا على أولادهم , وربما كان الضرر يعود على جميع ما ذُكِرَ , ولكن اختار الأنفس لأنها أغلى موجود لدى الإنسان , فلعلَّهُ إذا عَلِمَ أن بغيه عائدٌ على أغلى ما لديه أن يرتدعَ ويتوب .
ومثل هذا المعنى قوله تعالى : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } (43) سورة فاطر , وقوله سبحانه : { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } (10) سورة الفتح , وآية الفتح مماثلة في تعبيرها آية يونس حيث القصرُ بإنما , والتعبير بالنفس , واختلف التعبير بآية فاطر حيث أتى الحصر بأسلوب النفي والإثبات ( لا ) ( إلا ) , وأتى بلفظ ( أهله ) بديلاً للنفس , ربما لأن التعبير هنا ليس فيه مخاطبين أو أناس تتحدث الآية عنهم , فأتت الآية قاعدة عامة , لتتحدثَ عن المكر نفسه , وليس عن الماكرين , بخلاف آيتي يونس والفتح , فهما تتحدثان عن الباغين والناكثين ( يبغون , فمن نَكَثَ ) .
وقوله في سورة يونس : ( يبغون.. بغير الحق ) هذا قيد لا مفهوم له , أي ليس هناك بغي بحق , وبغي بغير حق , فالبغي كله بغير حق , وإنما أتى هنا لبيان حقيقة البغي وأنه بغير حق دائماً , ومثل هذا التعبير كثير في القرآن , إذ يأتي القيد لبيان حقيقة الحدث , لا لبيان مفهوم المخالفة فيه , ومثل ذلك قوله تعالى : {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (117) سورة المؤمنون , فقوله : لا برهان له به , قيد لا مفهوم له , لأن جميع من عبد غير الله فهو لا برهان له به , ومثله قوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } (112) سورة آل عمران , فهل هناك قتلٌ للأنبياء بحق ؟
وعليه فكل من بغى أو مكر بعباد الله تعالى وأراد بغيره سوءاً أو ضرراً فليَبشِرْ بوقوعه بشَرِّ أعمالهم من حيث لا يشعر { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (123) سورة الأنعام
والله تعالى أعلم , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
20/9/1431هـ