نعمة الألم
الألم ليس مذموماً دائماً ولا مكروهاً أبداً ، فقد يكون خيراً للعبد أن يتألم
إن الدعاء الحار يأتي مع الألم ، والتسبيح الصادق يصاحب الألم ، وتألم الطالب زمن التحصيل وحمله لأعباء الطلب يثمر عالماً جهبذاً ، لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية وتألم الشاعر ومعاناته لما يقول تنتج أدباً مؤثراً خلاباً ، لأنه انقدح مع الألم من القلب والعصب والدم فهز المشاعر وحرك الأفئدة ومعاناة الكاتب تخرج نتاجاً حياً جذاباً يمور بالعبر والصور والذكريات .
إن الطالب الذي عاش حياة الدعة والراحة ولم تلذعه الأزمات ولم تكوه الملمات ، إن هذا الطالب يبقى كسولاً مترهلاً فاتراً .
وإن الشاعر الذي ما عرف الألم ولا ذاق المر ولا تجرع الغصص تبقى قصائده ركاماً من رخيص الحديث ، وكتلا ًمن زبد الفول ، لأن قصائده خرجت من لسانه ولم تخرج من وجدانه ، وتلفظ بها فمه ولم يعشها قلبه وجوانحه .
وأسمى من هذه الأمثلة وأرفع : حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة ، وبداية البعث ، فإنهم أعظم إيمانهم ، وأبر قلوباً ، وأصدق لهجة ، وأعمق علماً ، لأنهم عاشوا الألم والمعاناة : ألم الجوع والفقر التشريد ، والأذى والطرد والإبعاد ، وفراق المألوفات ، وهجر المرغوبات ، وألم الجراح ، والقتل والتعذيب ، فكانوا بحق الصفوة الصافية ، والثلة المجتباة ، آيات في الطهر ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولاوأعلاماً في النبل ، ورموزاً في التضحية ، مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين
وفي عالم الدنيا أناس قدموا أروع نتاجهم ، لأنهم تألموا ، فالمتنبي وعكته الحمى فأنشد رائعته :
وزائرتي كأن بها حياءً **** فليس تزور إلا في الظلام
والنابغة خوفه النعمان بن المنذر بالقتل ، فقدم للناس :
فإنك شمس والملوك كواكب **** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وكثير أولئك الذين آثروا الحياة ، لأنهم تألموا .
إذن فلا تجزع من الألم ولا تخف من المعاناة ، فربما كانت قوة لك ومتاعاً إلى حين ، فإنك إن تعش مشبوب الفؤاد محروق الجوى ملذوع النفس أرق وأصفى من أن تعيش بارد المشاعر فاتر الهمة خامد ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين النفس ،
ذكرت بهذا شاعراً عاش المعاناة والأسى وألم الفراق ، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في قصيدة بديعة الحسن ، ذائعة الشهرة ، بعيدة عن التكلف والتزويق : إنه مالك بن الريب ، يرثي نفسه :
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى **** وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
فلله دري يوم أترك طائعا **** بني بأعلى الرقمتين وماليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا **** برابية إني مقيم لياليا
أقيما علي اليوم أو بعض ليلة **** ولا تعجلاني قد تبين ما بيا
و بأطراف الأسنة مضجعي **** وردا على عيني فضل ردائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما **** من الأرض ذات العرض أن توسع ليا
إلى آخر ذاك الصوت المتهدج ، والعويل الثاكل ، والصرخة المفجوعة التي ثارت حمماً من قلب هذا الشاعر المفجوع بنفسه المصاب في حياته .
إن الوعظ المحترق تصل كلماته إلى شغاف فعلم ما في قلوبهمالقلوب ، وتغوص في أعماق الروح ، لأنه يعيش الألم والمعاناة ، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً
لا تعذل المشتاق في أشواقه **** حتى يكون حشاك في أحشائه
لقد رأيت دواوين لشعراء ولكنها باردة لا حياة فيها ولا روح ، لأنهم قالوها بلا عناء ، نظموها في رخاء ، فجاءت قطعاً من الثلج وكتلا من الطين
ورأيت مصنفات في الوعظ لا تهز في السمع شعرة ، ولا تحرك في المنصت ذرة ، يقولون بأفواههم ما ليس فيلأنهم يقولونها بلا حرقة ولا لوعة ولا ألم ولا معاناة قلوبهم
فإذا أردت أن تؤثر بكلامك أو بشعرك ، فاحترق به أنت قبل ، وتأثر به ،) وذقه وتفاعل معه، وسوف ترى أنك تؤثر في الناس
فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)